ماذا يعني احتفالنا بعيد الاستقلال ؟!

تـحلّ علينا اليوم الذّكرى الثّالثة والسّتّون لاستقلال جزائرنا الحبيبة الغالية ... لقد كان يوم الخامس من شهر جويلية (يوليو) 1962م يوما مشهودا في تاريخ الجزائر الأبيّة الثّابتة الصّامدة الـمقاومة لأعتَى استدمار استئصالي استيطاني متغطرس، قاهر للحريّات، مبيد للبشر، مدمّر للقيم ... إنّه الـمستعمر الفرنسي الغاشم الظّالم، الـمستبدّ الـمجرّد من أيّ ذرّة من الإنسانيّة.

يوم الخامس من جويلية 1962م كان عيدًا كبيرًا برمزيّته، عظيمًا بِـمضمونه الذي سجّل قيمة الجهاد في سبيل الحريّة والانعتاق، وحمل ثَـمرة الاستماتة والـمجاهدة والـمغالبة لنيل الـمطالب الشّرعيّة في استرجاع السّيادة، والتّخلّص من التّبعيّةـ، وطرد كلّ أشكال القهر والظّلم والـحيف والضّيم ... 

هو يوم عزيز لكونه نقطةً مفصليّة بين ماضٍ قُدِّمت فيه تضحيات وأعمال كبيرة لـمنع اغتصاب الأرض، وحماية القيم والـمقوّمات من تشويهها أو محوها أو القضاء عليها ... فكان الجهاد كبيرا وشديدا وقويّا ... وبين مستقبل يكون فيه الـجهاد أكبر والنّضال أشدّ والعملُ أقوى ... للـمحافظة على الـمطالب، والـتّمسّك بالـمكاسب، ودفع الـمثالب، والتّصدّي للثّعالب.

هو يوم نحتفل به لنتعاهد على الوفاء للـمبادئ والأصول، وتوثيق الصّلات بالسّلف الذي قدّم لنا الجزائر حرّة مستقلّة؛ رجاء أن نكمل الـمسيرة بصدق وإخلاص وقوّة وثقة في النّفس واعتداد بالذّات، وترابط وتضامن بيننا. وحسن استغلال للإمكانات، وإقدام نحو البناء الصّحيح القويم للدّولة الجزائريّة القويّة الـمقاومة لكلّ أشكال التَّرهُّل والتّسفُّل، ولكلِّ ألوان التّسيّب وأنواع التّخلّف..

هو يوم نتذكّر فيه أنّ الجزائر كانت في الحقبة الاستدماريّة مرمى الأعداء الكثيرين الـمتنوّعين ... الذين يـحيكون حولها أنواعا عديدة من الـمؤامرات، ويقومون ضدّها بالـمناورات، ويضغطون عليها ويساومونها في ثوابتها وتاريخها، وفي وجودها -أصلا- على البسيطة..؛ ليسقطوها ويقضوا عليها، فيستريحوا من صمودها ومن مواقفها البطوليّة الـمزعجة الـمدوّخة لأعدائها الأقربين والأبعدين.. هذا ما أشار إليه شاعر الثّرة الجزائريّة: مفدي زكريّا سنة 1958م: 

شعبٌ، دَعَاهُ إلى ااـخـــلاص بُناتُـــهُ

 

فانصبّ مذْ سـمعَ النِّدَا، وَتَطَوَّعَـــــــا

وَأَرَادَهُ الـمستعمرون عناصـــــــــــــــــــــــــــــــــرًا

 

فأبى مع (التّاريخ) أن يَتَصَدَّعَــــــــــا

واستَضعفــــــــوه، فقـــــرّروا إذلالــــــــــــــــــــــــــه

 

فأبتْ كرامتُه لــــــهُ أن يُــــخضعَـــــا

واستَدرجُوه، فَدبَّـُـروا إدماجـَـــــــــــــــــــــــــــــه

 

فَأَبَتْ عُـــــروبتُه لهُ أنْ يُـــــــــــــــبْلعَـــــــــــــــــا

وَعَنِ العَقيــدةِ، زَوَّرُوا تَـــــحريفَـــــــــــــــــــــه

 

فَأَبَى مَعَ (الإيـمان) أنْ يَتَزَعْزَعَــــــــــــــا

وَتَعَمَّدُوا قَطْعَ الطّريــــــقِ، فلَمْ تُـــــــــــــــــــــــــرِدْ

 

أسبابُــــــه بــــالعرب أنْ تَتَقَطّعَـــــــــــــــــــــا

نَسَبٌ بِدُنْيَا العُــــرْبِ زكّى غَرْسَـــــــــــهُ

 

ألَـــــــــمٌ، فَأَوْرَقَ دَوْحُــــــــــهُ، وَتَفَرَّعَـــــــــــــــــــــــــــا  

 

تِلْكَ العُروبَةُ، إِنْ تَـــــثُرْ أَعْصَابــُــــــــــهَــــــــــــــا

 

وَهَــــــنَ الزّمانُ حيالَـــها وتضعضعَـــــــــــــــا 

الضّادُ في الأجيال خلّدَ مَــــجْدَهـَـــــــــــا

(اللّهب الـمقدّس، ص: 59، 60)

 

والـجـُرحُ وَحّدَ في هَوَاهـــــــــا الـــــمَنزَعَــــــــــــــــــــــــا

 

 

هذه الـمؤامرات والـمحالاوت اليائسة الفاشلة، التي كان لها بالـمرصاد الشّعبُ الجزائري الفحل البطل الأبيّ العَصِيّ على كلّ الأعداء في كلّ الـمراحل الصّعبة التي مرّ بها تحت نير استعمار حقود بغيض لئيم ... لم تتوقّف إلى اليوم، ولن تتخلّف.. 

إنّ الجزائر مستهدفة من العدوّ القريب والبعيد في كلّ شيء وفي كلّ ركن وفي كلّ حركة وسكنة تصدر منها؛ لأنّ أعمالها وتحرّكاتها تنطلق من الـمبادئ، وتتدثّر بالـمواقف، وتتشكّل من القيم، وتُنسَج من الـمقوّمات، وتَتَقدّم وتحضرُ حيث يكون الظّلم الذي يجب إزالته في أيّ بقعة من بقع العالم.. 

هذا الثّبات والصّمود والانتصار للقضايا العادلة، وهذه الجرأة على مقاضاة الظّلمة ومقاومة التّعسّف والتّعدّي على الحقوق، وهذه الشّجاعة في منع من يدّعون القوّة والسّيرة على العالم.. من تنفيذ مخطّطاته ومشروعاته الخبيثة..حرّك قوى الشّر ضدّها، وجرّ معها من لا يَـملكون من أمرهم شيئا إلّا متاع الدّنيا الزّائل الذي يصوّر لهم أنّهم به يسيطرون على خيرات الضّعفاء، وحتّى من يحسبون أنفسهم أنّهم يستطيعون إركاع من يَـملك القوّة الحقيقيّة كالجزائر الأبيّة، فيقتربون منها بالـمؤامرات حينا، وبالـخيانات طورا، وبالتّنمّر أحيانا، لكنّهم في حقيقة أمرهم  هم كما قال الشّاعر:

ألقابُ مَـملكةٍ في غيرِ مَوضعِها

 

كالـهِّرِ يَـحْكِي انتفاخًا صولةَ الأسدِ

الجزائر أسد هَصُور والـمتأمرون هِرَرةٌ ضعيفة، لا تقوى على الاقتراب من عرينها، ولا الـمساس بقوّتها ... فعلينا نحن أشبالَ هذا الأسد اللّيث أن نكون أسودا أيضا، نقف في وجوه الأعداء بكلّ حزم وعزم وحسم، ونعاهد أنفسنا على التّرفّع عن السّفاسف ونرتقي إلى مقام رجال البناء ولتّعمير والتّشمير عن ساعد الجدّ، والـمضيّ بالجزائر نحو الازدهار والرّقيّ في كلّ الـمجالات, وأن نتحلّى بالأخلاق الفاضلة وأن لا نقع في فخاخ الخلافات والنّزعات الطّائفيّة، والتّعصّب الـمقيت، وخيانة الوطن والتّآمر عليه، والتّخلّف عن خدمته وحمايته.

هذا العهد هو الاحتفال الحقيقي الصّادق بعيد الاستقلال والانعتاق والحريّة والكرامة الشّهمة والـمروءة .

أختم هذه الخواطر بهمسة لشيخ الصّحافة الجزائريّة: الشّيخ إبراهيم بن عيسى أبي اليقظان، خاطب بها الشّعب الجزائري في افتتاحيّة أوّل جريدة أسّسها سنة 1926م (جريدة وادي ميزاب): " أيها الجزائري الـماجد، اعلم أنّ القطر الجزائري مدينة واحدة تاريخيّة، مسوّرة بسور واحد وهو الإسلام، وسكّان دورها هم سكّانه، فلا يَـمنع انحيازُ كلٍّ في داره ومُـحافظتُه على مُـميّزات عائلته فيه سائرَ سكّان الـمدينة من التّعاون والتّعاضد على جلب الـمصلحة لها. ودرء الـمضرّة عنها. فإنّ مصلحة الـمدينة هي مصلحة ديارها، ومضرّتها هي مضرّتها. إذا أقبل النّهار فإلى الجميع، وإذا هجم اللّيل فعلى الجميع." (عدد: 1.. 01/10/1926م).

على كل وطني جزائري حرّ  أن يُـحضرَ هذه الـهمسة أمامه، وهو يحتفل بعيد استقلال الجزائرـ فيعرف واجبه نح  هذا وطنه الـمفدّى الغالي الكبير، ويتأمّل في هذه الجملة: ماذا يعني احتفالنا بعيد الاستقلال؟؟!!

 

القرارة يوم السّبت: 09    محرّم      1447ه

05    جويليّىة    2025م

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام 

اسم الكاتب