
بسم الله الرحمن الرحيم
رَحَلَ رَجُلُ العِلْمِ وَالعَمَلِ وَالقِيَمِ وَالـهِمَم..
العالـمُ يُـحسَب في عداد الرّجال الأفذاذ متى كان ذا حصيلة معرفيّة متنوّعة وواسعة، وكان بعلمه عاملا دؤوبا صادقا مُـخلصا، وبرسالته قائما مرابطا في الثّغور ليؤدّيها أحسن أداء، وكان لغيره مفيدا من دون تهاون وتراخٍ، وكان إشعاعُه العلمي ساطعًا ممتدّا في الآفاق القريبة والبعيدة، وكان المستفيدون بـمعارفه خلقًا كثيرين من مختلف المستويات وفي مختلف الأماكن، وكان ممّن يجيد تقديم هذه المعارف: منهجا وأسلوبا بكفاية.. وقبل ذلك كلّه وبعده وفي كلّ حين يكون صاحبَ أخلاق عالية، تساعده على نقل هذه المعارف إلى غيره، وتعصمه من الإخفاق والانحراف عن سواء السّبيل.. كما قال شاعر النّيل حافظ إبراهيم:
لَا تَـحْسِبَنَّ العِلْمَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ |
| مَا لَـمْ يُتَوَّجْ رَبُّه ُ بِـخَلَاقِ |
وَالعِلْمُ إِنْ لَـمْ تَكتَنِفْهُ شَـمَائِلُ |
| تُعْلِيهِ، كَانَ مَطِيَّةَ الإِخْفَاقِ |
هذه الخصائص وهذه الصّفات نجدها مجسّدة وثابتة في شخصيّة عالـمِنا العامل الـمجاهد الـمجتهد الأستاذ الدّكتور محمد بن صالح بن بكير حمدي، الذي رحل عنّا قبل يومين؛ تاركا في قلوبنا حسرات، وفي عيوننا عَبَرات، وفي صفوفنا ثغرات، وفي خطواتنا عثرات، وفي مؤسّساتنا فَـجواتٍ... رحل ونحن في أمسّ الحاجة إلى علمه وخُلقه وعمله وجدّه ومشروعاته التي أنجز منها ما تيسّر، وبدأ في بعضها يتحرّك ويُبْحِر، ويوجّه ويرشد ويراقب ويرافق، ومنها ما يزال في طيّ التّفكير والتّخطيط... بكلّ ذلك عُدَّ عَلَمًا بارزا وَمَعلَمًا متميّزا في طريق العمل والدّأب ونكران الذّات في السّعي والمثابرة في سُبل الخير، ومرجعًا للاقتداء في خلال التّضحية والفداء، وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
وَدَّعَنَا وَوَدَّعَ الأمّة الإسلاميّة مَنْ أخلص لله دينه، وصدق في عمله، وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وقام بواجبه في سبيل التّصحيح والإصلاح والتّوجيه والإرشاد، والتّوعية والتّعليم والتّكوين والتّثقيف.. تركنَا مَنْ تَعلّمَ لِـيُعلِّمَ، وبَنَى نفسه لِـيَبْنِيَ غيرهُ..
غادَرَنَاَ مَنْ كان يجاهد في ميادين عديدة، ويجوب أقطارا كثيرة، وَيَؤُمُ مجالس متعدّدة، ويشارك في مؤسّسات مختلفة، ويعمل في هيئاتٍ متنوّعةِ التّخصّص والنّشاط، ويَسيحُ في فضاءات قريبة وبعيدة، داخل وطنه الجزائر وخارجه، يرحل من مكان إلى آخر متنقّلًا بين القارّات الأربع:(إفريقيا، آسيا، أوروبا، أمريكا)، متعلّما، معلّما، واعظا، مرشدا، باحثا، محقّقا...
سافرَ عنّا مَن ترأّس مؤسّسات، وانتسب إلى هيئات... وَمَن اجتهد وجاهد وصبر وصابر ورابط في خدمة المجتمع، وَمَن اهتمّ بالطلبة تكوينا وتأطيرا وتوجيها ومرافقة.. ومَنْ تفرّغ للبحث في القضايا الاقتصاديّة وقدّم توجيهات في الَـمجال لِأَسلَمَةِ التّعاملات، وتنقية الـمُعاملات ممّا راَنَ عليها من الـممارسات الـمخالفة للشّرع...عمل في هذا الـميدان بـمختلف الأساليب والـمناهج والـمناسبات: بدروس الوعظ في المساجد، وعقد لقاءات مع الـمتعاملين الاقتصاديّين، ومناقشة قضايا الاقتصاد والمعاملات الـمالية مع الـمتخصّصين في الـمجال، ومع الـممارسين في الـميدان. وبالـمشاركات العديدة الـمتكرّرة في الـمؤتمرات والـمنتديات الـمحليّة والوطنيّة والدّوليّة.. ما أهّله وأعانه على وضع قواعد وضوابط للعمل وَفق الـمبادئ والأصول الإسلاميّة، وطِبقا لقواعد النّشاطِ التّجاري والصّناعي المؤسَّس..
هذا العَلَم الذي فقدناه يتميّز بالعمل الكبير الدّؤوب، وبالنّشاط الواسع الممتدّ، وبالرّوح العالية والقيم الغالية: الثّبات والصّمود في ميدان الجهاد الشّاق المرهق المكلّفو ونكران الذّات، وهجران الرّاحة الجسديّة واعتناق الرّاحة النّفسيّة.. هو نموذج ممّن انطبق عليهم قول الله عزّ وجلّ: )وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَـمَعَ الـمُحْسِنِينَ ( (العنكبوت/ 69 ).
شَهِدَتِ المساجدُ على جهاده، سَجَّلَتِ الـمؤتَـمرات والـمُلتقيات حضورَه الدّائمَ القويَّ فيها، استفادت الجامعات من محاضراته وندواته..
رَحَلَ مَن كان له أثر في كلّ بقعة حلّ بها، ومَنْ كان له دورٌ في كلِّ مشروع شارك فيه.. رَحلَ عنّا رجلُ العلم والعمل والقيم والهمم...
فقيدنا الشّيخ محمد بن صالح حمدي هو – إن شاء الله – مِـمّن هُدِي إلى سُبُل الخير والعمل الصّالح فكان من الـمحسنين، الذين لا يضيع عملهم، فَيُجازَى عليه أحسنَ الجزاء، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم. رحمه الله وغفر له وتقبّل منه أعماله الصّالحة وأسكنه فسيح جنّاته، إنّه سمع قريب مجيب.
نبذة تعريفية عن الفقيد:
ولد يوم 26 سبتمبر 1954م، بالقرارة.
سنة 1961م، التحق بالمدرسة الفرنسية، مع مزاولة الدراسة في المدرسة الحياة القرآنية، حيث استظهر القرآن الكريم سنة 1968م.
واصل الدراسة في معهد الحياة حتى تخرج فيه بنيل شهادة البكلوريا التعليم الأصلي.
درّس بمدرسة الحياة بالقرارة لمدة سنة ونصف. انتقل بعدها إلى مدينة باتنة، وفيها تحصل على شهادة البكالوريا، وفيها أيضا أدى واجب الخدمة الوطنية.
لم يكمل تعليمه الجامعي إلاّ بعد سنوات، انتسب لكلية العلوم الاقتصادية بجامعة باتنة، وحاز فيها على درجة الليسانس سنة 1988م، في تخصص الاقتصاد المالي.
تابع دراسته في مصر وانتسب لمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، فنال دبلوم الدراسات الإسلامية.
انضم إلى هيئة التدريس بكلية العلوم الإسلامية جامعة الحاج لخضر بباتنة، ترقى إلى درجة أستاذ التعليم العالي في الاقتصاد الإسلامي والمعاملات المالية، إلى أن تقاعد عن العمل.
سنة 2000م، نال درجة الماجستير. وفي سنة 2008، نال درجة دكتوراة الدولة في الاقتصاد الإسلامي من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، بأطروحة "توازن الموازنة العامة، دراسة مقارنة بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي".
له عدة أبحاث علمية محكمة، ومشاركات في ملتقيات وندوات دولية ووطنية.
شغل عدة مهام، منها:
عضو حلقة العزابة، الهيئة الدينية لمسجد القرارة.
عضو مجلس إدارة عشيرته؛ آت أوبالة بالقرارة.
رئيس جماعة المزابيين بمدينة باتنة.
عضو تنسيقية أوقاف الإباضية للشرق الجزائري.
رئيس مركز التميز للبحوث والدراسات الاقتصادية بالجزائر العاصمة.
أستاذ مشارك في كلية المنار للدراسات الإنسانية، فرع الجزائر العاصمة.
عضو المجلس العلمي لمعهد المناهج بالجزائر العاصمة.
أستاذ بقسم الدراسات الشرعية المسائية لمعهد الحياة بالقرارة.
رئيس المعهد العالي للعلوم الإنسانية والاجتماعية بالقرارة (أول مؤسسة تعليم عال خاصة معتمدة في الولاية).
محاضر ومدرّس بانتظام في عدة مساجد ومنتديات.
له عدة مؤلفات، منها:
نظرية الاستخلاف على الأموال في الاقتصاد الإسلامي، جمعية التراث، غرداية، الجزائر، 2005م.
مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، فيزوكوم الجزائر، 2012م.
توازن الموازنة العامة، دراسة مقارنة، دار النفائس، الأردن، 2013م.
فقه المعاملات المالية، الحلقة الأولى من سلسلة “فقه الاقتصاد” مركز التميز، الجزائر، سنة 2014م.
سلسة الدين المعاملة.
كما نشر سلسلة من كتيبات مبسطة في فقه المعاملات المالية، مركب المنار، الحميز، الجزائر.
توفي يوم الأحد 12 ذو الحجة 1446هـ / 08 جوان 2025م، بمدينة لوطاية في رحلة من مدينة باتنة إلى مدينة بسكرة، لزيارة أهله عقب عيد الأضحى.
واحد من أعلام الاقتصاد الإسلامي في الجزائر. أفنى عمره في خدمة الدين والعلم والمجتمع، في مسيرة حافلة بالعطاء الدعوي والعلمي والفكري.
تغمده الله برحمته الواسعة.
القرارة يوم الثّلاثاء: 14 ذي الحجّة 1446ه
10 جوان 2025م
محمد بن قاسم ناصر بوحجام