
الـمقاومة الإسلاميّة وغزوات النّبيّ r...
ما نشاهده في الـميدان من أعمال بطوليّة من الـمقاومة الإسلاميّة في غزّة العزّة والكرامة، وتحرّكات رجالها الأشاوس في الميدان، والشّجاعة والإقدام بثبات وثقة في النّفس.. في التّصدّي لكلّ أشكال الاعتداء عليهم في أرضهم وفي كلّ يتّصل بهم بسبب، وما نراه من أنواع الظّلم والمؤامرات والمناورات والمخطّطات الجهنميّة والتّهديدات والمساومات والمفاوضات الموجَّهة التي تعمل على إجبارهم للتّنازل عن حقّهم في أرضهم وحريّتهم وكرامتهم، وتكتّل الأحزاب الغادرة للقضاء عليهم، وظهور الـمنافقين القريبين منهم والبعيدين عنهم، من الـمطبّعين والـمتلوّنين والـمتقلّبين في مواقفهم ونظراتهم إلى المقاومة في شرعيّتها وعدمها.. وغير ذلك من الأساليب والمخطّطات المدمّرة والحروب النّفسيّة التي تُخاض عليهم، في مختلف الأماكن في العالم، ومن مختلف الأجهزة، ومن مختلف الفئات، ومن مختلف المستويات، التي ترمي كلّها إلى إضعاف المقاومة أوّلا، ثمّ إبعاد أنصارها عنها ثانيا، ليأتي دور القضاء عليها نهائيّا حتما مقضيّا؛ زعما من المتآمرين والـمتواطئين الأبعدين والأقربين أنّ ذلك يؤدّي إلى استسلامها..
نسي هؤلاء الأغرار الجبناء السّذج أنّ صاحب العقيدة الثّابتة الرّاسخة لا يقهر، وأنّ صاحب الحقّ الصّريح لا يهزم، وأنّ الـمتوكّل على الله الـمستعدّ الاستعداد الكامل يتمتّع بطول النّفس، فيأخذ حقّه غلابا، بعون من الله القويّ العزيز الحكيم. هذا الـمظهر الذي ظهرت به المقاومة في الميدان، الذي لن تكون عاقبته سوى النّصر بإذن الله؛ لأنّه وعد منه لنصرة أصحاب الحقّ والمؤمنين الموفّين في جهادهم: )إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا في الـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ((غافر/ 51). هذا المظهر دفع بِـي إلى عرض بعض النّتائج التي خرج بها الـمسلمون في بعض الغزوات التي خاضوها ضدّ الكفر والطّغيان وكان النّصر حليفهم.. هي في الوقت نفسه دروس وعبر.. اخترتُ غزوات: بدر والأحزاب ومؤتة وتبوك..
غزوة بدر: كانت أوّل معركة يخوضها المسلمون ضدّ الكفر بعد أن استقّروا في المدينة، وبدأ تأسيس الدّولة، وبعد أن أذن الله لهم بقتال الكفّار والمشركين.. من نتائجها والعبر المستفادة منها:
لـمّا علم الله صدق المسلمين وحسن توكّلهم عليه أكرمهم بالنّصر الـمبين على عدوّهم. ولـمّا أخذوا بأسباب القوّة، واستعدّوا بها لـمواجهة الطّغيان والكفر، والتجَؤُوا إلى الله العليّ القدير ودعوه أن ينصرهم، أعانهم بوسائل النّصر، فأنزل ملائكته تقاتل معهم. وأَنعم عليهم بغيثٍ يُثبّتُ أقدامهم على الأرض؛ ليقاتلوا بقوّة وثبات وثقة في النّفس، بينما كان الـمطر وَبَالًا على الـمشركين، منعهم عن القتال براحة.
أثر العقيدة وثمرة الإيمان كانا بارزين في أوّل اختبار للمسلمين في مواجهة الكفر والباطل بالسّلاح.. فقد كانوا يتسابقون إلى القتال ونيل الشّهادة في سبيل الله؛ ابتغاء مرضاة ربّ العزّة والجلالة والفوز بالجنّة.
كانت غزوة بدر أوّل تجربة للمسلمين في التّضحية في مجال القتال في سبيل الله؛ رغم ضعف إمكاناتهم وقلّة عددهم. كما كان لهم يوم الفرقان أوّل اختبار أمام الغنائم ورؤية الأموال الكثيرة، مع ما هم عليه من الفقر والحاجة، حتّى أنّ النّبيّ r أشفق عليهم ودعا الله U أن يخفّف عنهم الضّيق والعنت: " اللّهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنّهم عراة فاكسهم، وإنّهم جياع فأشبعهم". بسبب ذلك ارتكبوا بعض الأخطاء التي مسّت إيمانهم، لكن سرعان ما عادوا إلى الصّواب، حين نبِّهُوا وأُعلِمُوا بأحكام الله.
غزوة الأحزاب: التي اختبر فيها المسلمون في مواجهة مباغتة لأحزاب تجمّعوا للهجوم على المدينة والقضاء على الدّعوة الإسلاميّة والـمسلمين. فقد كانت معركةَ أعصاب، ولم تكن معركةَ خسائر؛ إذ لم يخسر المسلمون فيها كثيرا، إنّما عاشوا على أعصابهم، ومرّت عليهم حالات من العسر والشّدّة النّفسيّة. ابتُلُوا وزلزلوا زلزالا شديدًا... من العبر المستفادة منها:
نجح المسلمون في الدّفاع عن المدين بفضل اعتمادهم على ربّهم القويّ العزيز ناصر المستضعفين، ثمّ نتيجة إيمانهم بواجبهم الدّيني في تحمّل مسؤوليّتهم في حماية الدّعوة الإسلاميّة؛ فأظهروا شجاعة وصبرا على كلّ الأهوال، فنصرهم الله U.
ارتفعت معنويّاتهم بتأييد الله U لهم، وتسخير سبل الانتصار على الأحزاب المتجمّعين والمتحالفين ضدّ الإسلام وعرقلة حركة المشركين ؛ رغم قوّة عتادهم وعددهم.
إنَّ للقيادة الرّشيدة الحازمة في المعركة، وللشّورى التي اعتمدها الرّسول r دورٌ كبيرٌ في النّصر الذي حقّقه المسلمون في الغزوة.
للدّعاء أثره الكبير والأساس في النّصر. فقد كان عادةَ النّبيّ r في كلّ شؤونه وأعماله. وهو ما يجب أن يلتزم به المؤمن في حياته؛ لينصره الله U.
محبّة النّبيّ r لأصحابه والإحسانُ إليهم ، مثال يجب أن يسير عليه كلّ قائد وكلُّ مسؤول مع من هم تحت كفالته. وهو ما نتعلّمه من دعوة النّبيّ r أصحابَه الجائعين لتناول طعام جابر بن عبد الله معه؛ رغم قلّته. الطّعام الذي خصّ به جابر قائده.. فقد بارك الله U فيه فكفى كلّ أصحاب الخندق..
غزوة مؤتة: كانت شديدة على المسلمين لقوّة العدوّ الذي قابلوه، إنّه جيش الرّوم القويّ عددا وعدّة وشراسة. لكنّ النّبيّ r استعدّ لها استعدادا خاصّا، فعيّن ثلاثة أمراء لقيادة الجيش، على غير عادته في بقيّة الغزوات والمعارك.. من بين العبر المستفادة من هذه الغزوة:
أظهر أمراء معركة مؤتة شجاعة كبيرة، وأبلَوا بلاء حسنا في قتال الرّوم، وبقوا صامدين مقاومين حتّى اسْتُشْهِدُوا. وكلّ واحد منهم ظهر بميزة، فزيد بن حارثة ما ترك الرّاية حتّى نَهَشَتْهُ الرّماح والسّيوف، فلم تُبْقِ منه شيئًا. وجعفر بن أبي طالب حضن الرّاية بِعَضُدَيْهِ، بعد أن قُطعت يداه، ولم تسقط منه إلّا حين قُطِع نصفين. وعبد الله بن رواحة قهر نفسه وتغلّب عليها، حين تردّدت عن الإقدام لحمل الرّاية، وأقسم عليها لتَنْزِلَنَّ إلى القتال؛ حتّى خرّ شهيدًا في المعركة.. ما دفع هؤلاء إلى هذه المواقف هو الإيمان بضرورة الإقدام في سبيل الله، ونبذ الخوف، وتحمّل المسؤوليّة، وعدم التّخلّي عمّا وُكِل إليهم، وبخاصّة وأنّ الرّسول r هو الذي أمَّرهم وأعطى فيهم الثّقة. فلا يمكن أن يخونوا الأمانة، ولا أن يتخلّفوا عن المسؤوليّة. فهذا هو شأن الـمسلم الـعارف واجبَه الدّيني.
الـمسلمون لا يقاتلون بالعدد ولا بالقوّة، وإنّما يقاتلون بالإيمان الذي يسكن قلوبهم، وهم يعلمون أنّ النّصر من الله القويّ العزيز؛ لذا ثبتوا وهم قلّة أمام جيش عرمرم كبير. وقد ركّز فيهم هذا الـمعنى عبدُ الله بن رواحة، حين حرّضهم على الإقدام في المعركة، كما ثبّته فيهم أيضا عقبة بن عامر، حين قال لبعض الجند الذين كادوا أن يُظهروا بعض الانهزام يا قومُ: يُقتلُ الإنسانُ مُقبلًا خيرٌ من أن يُقتَلَ مُدبرًا..
الإسلام لا يقبل الضّيم والظّلم، والـمسلمون لا يسكتون على من يتعدَّى عليهم، فهم يقومون ليُدافعوا عن شرفهم ويُؤدِّبوا من يُهينُهم.. هذا ما فعلوه في غزوة مؤتة، هَبُّوا لينتقموا لكرامة الإسلام ممّن قتل سفير الرّسول r إلى أحد الأمراء.
غزوة تبوك: في هذه الغزوة خرج الـمسلمون ليقاتلوا الرّوم في دارهم، وقطعوا مسافات شاسعة من الـمدينة في ظروف صعبة، هي مفصّلة في كتب السّيرة النّبويّة؛ حتّى أنّ هذا الجيش عرف بجيش العسرة، ونُعِتَ الظّرفُ الذي تحرّك فيه بــ " ساعة العسرة"، كما ورد في سورة التّوبة. وللهيبة التي يتمتّع بها الجيش الإسلامي فرّ جيش الرّوم قبل أن يصل إليهم جيش الـمسلمين.
من الدّروس والعبر المستفادة من هذه الغزوة:
لَبَّى الـمسلمون الصّادقون نداء الله ورسوله لمحاربة الكفر والظّلم، وصبروا على كلّ الـمشقّات والعسر في سبيل مرضاة الله U؛ فكانت النّتيجة أن كفاهم الله مؤونة قتال الرّوم، الذين فرّوا من مواجهة جيش الـمسلمين. كانت بدايةُ غزوة تبوك بلاء كبيرًا وعسرًا شديدًا، وختامُها طمأنينة وراحة وعزّة وكرامة..
الجهاد لصدّ أعداء الإسلام ليس محصورا في الخروج للغزوِ وقتال العدوّ فحسب، بل هو مطلوب بكلّ ما يُؤَدَّى به هذا الواجب. يكون بالـمال والنّفس، بالعلم، بالمحافظة على الشّخصيّة والأصالة ... كما حدث في غزوة تبوك.
على الـمؤمنين أن يحذرُوا العدوّ الخارجي مرّة وأعداء الدّاخل ألف مرّة. وبخاصّة الـمنافقين؛ لأنّهم أعداء لا يظهر أثرُهم سريعا، ولا ينكشفون بسهولة.. فقد ظهروا في هذه الغزوة بكثرة وقوّة ...
هذه بعض الدّروس التي نأخذها من غزوات النّبيّ r التي تكون للـمسلم نبراسا ونورا في حياته، خاصّة في محاربة الكفر والطّغيان والظّلم ... والتّحلّي بالقيم التي تكوّن الرّجل القويّ بإيمانه، الماضي في طريق العمل في سبيل الله مهما تكن الظّروف وتشتدّ الخطوب، ومهما يكن العدوّ.. هذه الدّروس تعطينا قواعد العمل البنّاء، وتبعد عن طريقنا ما يقف أمام تحقيق الأهداف وبلوغ الغاية التي هي أمانة في عنق الـمسلم الموفّي.. وقد أَثْبَتَتْ نجاعتَها؛ إذ هزمت الأعداء ونصرت الأوفياء.
فلننظر إلى طبيعة الـمقاومة الإسلاميّة في فلسطين بعامّة وغزّة بخاصّة وحقيقتها من خلال سيرورة هذه الغزوات وغيرها. ولنقوّمها ونتأمّل فيها – خاصّة – من يوم السّابع أكتوبر 2023م، أي بداية طوفان الأقصى الـمبارك، والـتّطوّرات الـميدانيّة التي مرّت بها، والـمشاهد التي ظهرت بها، والـمواقف التي تعرّضت لها، وَلْنَغُصْ في أعماق العمليّات والـمخطّطات والقرارات التي اتخذتها في ظلّ عدم توازن القوى بينها وبين أعدائها القريبين والبعيدين، وفي سياق الـمؤامرات والمناورات والضّغوط التي تمارس عليها، وغيرها من الأعمال التي تنفّذ للإجهاز عليها.. لكنّها ثبتت في مواقفها، وركنت في مواقعها، وتشبّثت بقراراتها، وتعلّقت بأهدافها..
في الـمقابل ننظر وضعيّة الأعداء الـمضطربة، ومواقفها الـمتذبذبة، ومخطّطاتها اليائسة، ومناوراتها الفاشلة...، نقارن بين الـمعنويات المرتفعة في رجال الـمقاومة، وحالات الإحباط وصور الانهزام التي تتكاثر في صفوفه.. لنعرف من الـمنتصر ومن المـندحر.. وندرك في النّهاية أنّ الـمشكاة التي يصدر منها رجال الـمقاومة الإسلاميّة، هي نفسها التي صدر عنها الصّحابة بإمرة القائد الأكبر محمد رسول الله r.. فكما كان النّصر حليفهم يكون – أيضا - حليف الـمقاومة بإذن الله تعالى.. فلينظر كلّ واحد منّا ماذا يقدّم لها ليكون وفيّا لدينه، صادقا في إيمانه، أمينا فيما تحمّله من أمانة أشفقت من حملها السّموات والأرض والجبال؛ حتّى لا يحشر مع الخونة النّاقضين للعهد.
الجزائر يوم الجمعة: 12 ربيع الأوّل 1447ه / 05 سبتمبر 2025م
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام