الفصل الرابع: مجهوداته العملية والدعوية
المبحث الأول: سفراته
المبحث الثاني: أعماله
المبحث الثالث: أخلاقه
المبحث الرابع: منهجه الدعوي
المبحث الخامس: إصلاحات الشيخ البطاشي الاجتماعية
أولا: قضية غلاء المهور
ثانيا: بناء المجالس
ثالثا: بناء المساجد
رابعا: دفتر الولادات والوفيات
المبحث السادس: كيف يقضي يومه
المبحث السابع: وفاته
المبحث الأول: سفراته
لم يكن الشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله شغوفا بالسفر ولا محبا للخروج من عمان إلا لأمر داع كحج أو علاج ويرى أن الوقت أثمن من أن يضيع في الترحال والسياحة وأن ساعة واحدة يقضيها الإنسان بين رياض العلم وبساتين المعرفة أو يكون متصديا فيها لفتيا وإرشاد سائل أو تعليم جاهل أو أمر بمعروف ونهي عن منكر خير من تجواله في بلاد الله الواسعة إذا كان تجواله هذا لا يثمر سوى إشباع نهم النفس مع ما يترتب على ذلك من تفويت مقاصد أسمى ومطالب أسنى كان حريا أن يقوم بها. 
ولذلك كان يعاتب بعض أصحابه ممن يكثرون السفر ويفرطون في الوقت في التنقل من بلاد إلى بلاد ويرى أن رباطهم في وطنهم وبين أهليهم وترددهم على المسجد فيه من الفضل ما لا يتأتى نظيره في السفر ما لم تدع إليه حاجة. 
والمتتبع لسفرات شيخنا رحمه الله خارج عمان يجدها لا تخرج عن مقصدين الحج أو العلاج. 
وعلى النقيض من إقلال الشيخ للسفر خارج عمان فانه لم يدع شبرا من أرض الوطن إلا زاره من أقصاه إلى أقصاه وكانت تربطه بشيوخ عمان وعموم قبائلها صلات ووشائج ود وصداقة وزيارات متبادلة في مناسبات عديدة. 
وأعود إلى ذكر أهم سفرات الشيخ رحمه الله إلى خارج الوطن:
1- السفرة الأولى لحج بيت الله الحرام سنة 1366هـ:
كانت هذه أول سفرة لشيخنا رحمه الله إلى خارج عمان وكان السفر عن طريق البحر وخلال الرحلة التقى رحمه الله بحاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد وملك السعودية الملك عبد العزيز والتقى بعلماء الأصحاب من المغاربة ومن جملتهم الشيخ أبو إسحاق اطفيش. 
هذه الرحلة سجلها الشيخ رحمه الله في سيرته الذاتية إذ جاء فيها:
وفي سنة ست وستين ذهبت إلى حج بيت الله الحرام ومعي الأخ خالد بن مهنا ومحسن بن خلفان السوطي وسالم بن عبيد اللزامي كان خروجنا في شهر رمضان ومررنا مسقط وأقمنا فيها أيامًا لأخذ جوازات السفر ولما تم الأمر ركبنا مركبًا عظيما يسمى دواركة وكان أول ما مارست للسفر خارج البلاد فمضى بنا المركب وبقي في البحر ستًا وثلاثين ساعة ثم ارسي بجزيرة البحرين فنزلنا البحرين ضيوفًا على حاكمها يومئذ سلمان بن حمد بن عيسى. 
ثم خرجنا من البحرين وتوجهنا إلى المملكة العربية السعودية ونزلنا بالخبر من المملكة العربية عند بعض من جماعتنا ثم توجهنا إلى أمير الدمام يومئذ عبد المحسن بن عبد الله بن جلوي وطلبنا الإذن في المسير فأذن لنا. 
ثم خرجنا وتوجهنا إلى قرية الأحساء وكان الملك عبد العزيز يومئذ بالأحساء فنزلنا أضيافا عليه وبقينا هناك أيامًا ثم طلبنا الإذن في المسير إلى بيت الله الحرام فخرجنا من الاحساء على سيارة وكانت الطريق يومئذ وعرة من جهة الرمال ولا تسلكها السيارات إلا بشدة وبقينا في الطريق بين الاحساء والرياض يومين ثم وصلنا الرياض وأقمنا فيها أيامًا ثم التحق بنا بعض الحجاج العمانيين وهناك استأجرنا سيارة وذهبنا جميعا ومر بنا بالدوادمي وعفيف وعشيرة وأحرمنا من قرن المنازل بعمرة وذهبنا إلى مكة ودخلناها بعد المغرب وطفنا وسعينا وأحللنا ثم ذهبنا إلى بيت الرباط ونزلنا هناك. 
وفي ذلك العام حج الشيخ أبو إسحاق إبراهيم إطفيش المغربي وجملة من أهل ميزاب منهم الشيخ سليمان بن الحاج داود رئيس جمعية العطف ويوم ثامن الحج أحرمنا من مسجد الجن وذهبنا إلى منى بتنا بها وبالصباح ذهبنا إلى عرفات وبعد الزوال اجتمعنا بإخواننا المغاربة وكان وقوفنا واحدًا وصلاتنا واحدة ثم أفضنا بعد الغروب وبتنا بالمزدلفة وخرجنا مع الغلس بعد صلاة الغداة ووقفنا عند المشعر الحرام. 
وكان الحج في ذلك العام على الإبل وعلى السيارات ومع الخروج من عرفات وقع زجل عظيم من اختلاط السيارات والإبل والمشاة ومع الخروج من مزدلفة ومن هناك ذهبنا لرمي جمرة العقبة وعدنا إلى المخيم. 
وكان نزول العمانيين في ذلك العام بحوش المغاربة إذ كانت منى كلها حيطان وهناك ذبحنا الهدي وحلقنا ورحنا لزيارة البيت وفي يوم الحادي عشر والثاني عشر ذهبنا لرمي الجمار وهناك زحام عظيم وفي الثاني عشر بعد رمي الجمار نفرنا إلى مكة في النفير الأول وبقينا أيامًا ثم خرجنا إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أجّرنا رجلاً بحرانيًا من أهل الاحساء يحملنا إلى الدمام لكنه لما أوصلنا المدينة هرب عنا ومن هناك استأجرنا سيارة إلى الرياض ومن الرياض استأجرنا سيارة تحملنا إلى الدمام والطريق وعر للغاية من جهة الرمال فإنا لما خرجنا من الرياض سرنا يومنا ذلك وبتنا بموضع يسمى الرماح وفي اليوم الثاني سرنا أيضا وبتنا بموضع يسمى الحني ومن هناك إلى الاحساء ثم إلى الدمام ثم ركبنا لنجًا حملتنا إلى البحرين وبقينا في البحرين ننتظر المركب ثم ركبنا في مركب يسمى دامرة وأقلتنا إلى مسقط ثم بقينا بمسقط ومن هناك استأجرنا إبلاً تحملنا إلى الوطن لأن السيارات لا وجود لها يومئذ إلا في مسقط نفسها ولا تتجاوز إلا إلى الباطنة وبعض البلدان القريبة وبهذا تمت الرحلة المباركة التي بلغنا بها البيت العتيق والمشاعر العظام وزرنا خير الخليقة وسلمنا عليه وعلى صاحبيه. أه. 
2- السفرة الثانية إلى الكويت للعلاج سنة 1373 ه:
سافر الشيخ رحمه الله إلى الكويت سنة 1373هـ للعلاج من صداع ألم به وأدى إلى ضعف النظر ولم يجد معه العلاج الشعبي والكي نفعا بل تفاقم الأمر سوءا إلا أنه لم يجد في الكويت ما أمله من علاج وعاد والمرض كما كان. 
جاء في السيرة:
وفي سنة ثلاث وسبعين أصابني صداع عظيم أدى إلى ضعف النظر وقد عالجته بكل حيلة فما نفع واكتويت في مواضع عدة من الرأس فلم يزد الصداع إلا شدة ثم توجهت للعلاج إلى الكويت ركبنا من مسقط في مركب يسمى دريسة ونزلنا البحرين وأقمنا فيها أيامًا ثم مضينا إلى الكويت في مركب آخر ونزلنا أولاً بقرية الفحيحيل عند بعض إخواننا ثم مضينا إلى الكويت ونزلنا عند رجل من الجماعة يسمى علي بن سيف فتلقانا بالجميل وأقمنا عنده أيامًا نراجع الأطباء فلم نجد عندهم فائدة ورجعنا بغير شيء ولما وصلنا مطرح ذهبت إلى الطبيب المسمى طومس فأخبرته بالمرض فقال: هذا نزول أسود في العين فقلت له: إن الصداع في الناظر فقال: المرض في العين ولا تشك وحاول أن يعالجني لكني رفضت علاجه لما أعلم أنه لا خبرة له بعلاج الماء الأسود ثم رجعت إلى الوطن. أه. 
3- السفرة الثالثة إلى الهند للعلاج سنة 1373هـ:
هذه السفرة أعقبت مجيئه من الكويت مباشرة وكان رفيقه فيها ابن أخيه حمود بن عدي بن شامس وفي بومبي التقى شيخنا البطاشي بالسيد تيمور بن فيصل وكان يومها قد استقر به المقام في الهند واعتزل العمل السياسي وترك إدارة شؤون البلاد لنجله السيد سعيد بن تيمور كما التقى بأحمد الشبيلي ونجله حامد الشبيلي وهما من أهل حضرموت وكان أحمد الشبيلي أحد المقربين إلى السيد تيمور أثناء مقامه بمسقط ومن أخص أعوانه ولما استقر المقام بالسيد تيمور في الهند صحبه أحمد الشبيلي إلى هناك وهو أديب شاعر له شعر جيد. 
وكان الشبيليان أحمد وحامد لسان الشيخ الناطق وترجمانه إلى اللسان الهندي ولولاهما لضاق عليه فضاء الهند الواسع وقد ذكرهما رحمه الله في قصيدة له يذكر فيها سفره إلى الهند. 
وفي بومبي قصد الشيخ طبيبا يسمى باناجي وأجرى له عمليه النزول الأسود إلا أن العلاج لم ينجح وبقي الألم يزداد شدة بعد عودته إلى عمان. 
قال رحمه الله متحدثا في سيرته عن هذه الرحلة:
وفي العام نفسه (1373 ه) خرجت وعندي الولد حمود بن عدي بن شامس وركبنا في مركب من مسقط يسمى دامرة كان خروجنا من المكلا عند غروب الشمس فسار بنا ليلته وأصبحنا في جواذر وقال المركب فيها ينزل ويحمل وخرجنا بعد العصر وسار بنا تلك الليلة وأصبحنا في كراتشي وقال فيها إلى بعد العصر ثم خرجنا وسار ليلته تلك وأصبح يسير وبات يسير. 
وفي صباح الثاني أصبح في ميناء بمبي وكنا أبرقنا لحامد الشبيلي أن يتلقانا في المركب ولما وصلنا إذا بحامد يسأل أين محمد بن شامس فأخذنا عنده وتولى تدبير أمورنا وأنزلنا من المركب وسهل أمور الجوازات وجميع العوائق ثم أتانا بجاري خيل وركبنا معا وأنزلنا بمكان يسمى مسافر خانه وهذه كلمة مقلوبة والأصل خانة المسافر ثم وصل عندنا أبوه أحمد الشبيلي وكان رجلاً ذا دراية وكلمناه فيما جئنا له وطلبنا منه أن يذهب معنا إلى الطبيب المسمى باناجي فذهب معنا وعرضت نفسي على باناجي وأفاد أن فيك ماء أسود وبعد الاختبار أخذ في العلاج فعالج هو العين اليمنى وكانت تضررت بالألم فبقيت أسبوعًا ثم فك عنها وعالج ولده العين اليسرى ثم بعد ذلك خرجنا من العلاج وتوجهنا إلى عمان إلا أن العلاج لم ينجح وبقي الألم يزداد شدة. أه. 
4- السفرة الرابعة إلى الهند للعلاج سنة 1374هـ:
ما لبث شيخنا رحمه الله بعد عودته من الهند إلا أشهرا معدودة حتى أزمع الترحال إليها مجددا بسبب اشتداد الألم عليه وكان رفيقه في رحلته هذه ابنه سلطان وفي بومبي تلقاه الشبيلي وولده كما في السفرة السابقة ووجد منهما عونا تاما وقصد طبيبا يسمى ميجر ايراني عالجه بعملية ولزم مستشفاه شهرا كاملا إلى أن من الله عليه بالشفاء وعاد إلى عمان. 
قال رحمه الله في سيرته:
وبعد سنة كاملة أي في سنة أربع وسبعين خرجت من الوطن حيران إلى أي جهة أقصد ولما وصلت مسقط وجدت الشيخ أحمد بن محمد الحارثي فأخبرته بقصتي فقال: علاجك مع باناجي غلط فإنه هو الذي خرب عين والدي ولكن أدلك على طبيب ببمبي يسمى ميجر ايراني فإنه هو الطبيب لهذا المرض فامتثلت كلامه وركبنا مركبًا وعندي الولد سلطان وكان مسيرنا في البحر كمسيرنا الأول و نزلنا ممبي بواسطة حامد الشبيلي وطلبنا منه أن يذهب معنا إلى ميجر المذكور فذهبنا وتلقانا ميجر وأخذ في العلاج وبقينا في المستشفى مقدار شهر وخرجنا وأنا بحمد الله صاح من المرض وقد ذهب الصداع وتراجع النظر وعدنا إلى عمان ونحن بحال الصحة. أه. 
وفي هذه الرحلة انشأ الشيخ رحمه الله قصيدة يذكر فيها مقامه ببومبي وحنينه إلى الوطن وشوقه إلى مرابع الأهل والأصحاب ويبدو من سياق القصيدة أنه قالها أيام كان بالهند لأنه يعلل النفس فيها بذكر الوطن وربوعه فالهلالية والبديعة والطائف والمكلا ووادي غرامة وصنعاء مواضع من المسفاة حيث نشأ وترعرع وله فيها أجمل الذكريات. 
كما أنه تطرق إلى ذكر أحمد وحامد الشبيليين وكان قد التقاهما ببومبي للمرة الثانية ويشكرهما فيها على صنيعهما ومعروفهما تجاهه والقصيدة طويلة غاب أكثرها والقليل المتبقي منها هو من ذاكرة الشيخ سلطان بن محمد بن شامس:
يا خليلي عللاني بقال **** واذكرا لي مقامنا بالهلال
ومقاما فوق البديعة ما **** بين صحابي وعشرتي والآل
ومقاما بطائف الوادي ما **** أنساه لو غبت في أقاصي الشمال
حبذا وقفة بسفح المكلا **** ولوادي غرامة المتعالي
وبصنعاء إن صنعاء أقصى **** أملي وهي محط رحال
ويقول فيها أيضا:
ما مقامي بأرض بومبي إلا **** كمقامي بساحة الأوعال
لست أدري ما ينطقون وما **** يدرون نطقي ولو بأفصح قال 
صاح لو لم نر الشبيلي فيها **** وابنه حامدا حميد الفعال
لأصبنا بحيرة واعتقال **** وبلينا بلاء داء عضال
إذ هما أطلقا أساري وفكا **** عن رهوني وخففا أثقال
لم أزل شاكرا لهم مدة الدهر **** ولن أنسى شكرهم بحال
5 - السفرة الخامسة لحج بيت الله الحرام سنة 1376هـ:
وهي ثاني سفرة له إلى بيت الله الحرام بعد حجه الأول سنة 1366هـ وكان رفيقاه في هذه الرحلة الشيخ مهنا بن حمود البطاشي وابنه سلطان بن محمد وسبق في موضع من هذا البحث أن أشرت إلى ما اكتنف هذه الرحلة من مخاطر وتحديات. 
زار شيخنا البطاشي رحمه الله خلال رحلته هذه دبي وقطر والبحرين والكويت بالإضافة إلى مدن المملكة العربية السعودية والتقى بالعمانيين المقيمين بالمملكة. 
سجل شيخنا رحمه الله تفاصيل هذه الرحلة في أرجوزة طويلة تربو على أربعمائة بيت ذكر فيها ما صادف في رحلته من مشاق ووصف كثيرا من الأماكن والبلدان التي زارها وتكلم عن المشاعر المقدسة في وصف بالغ مؤثر ومما قاله في تلك الأرجوزة:
هذا وإني لم أزل معتزما **** بأن أزور الحرم المعظما
لكي أؤدي ما علي افترضا **** وأحرز القبول منه والرضا
ولم تزل تعوقني العوائق **** عن ذاك والمقدور حتما سابق
ودائما أسأل ذا الآلاء أن **** يسهل السبيل لي وأن يمن
وعام غوشع لخمس انقضت **** من شهر شعبان وأربع مضت
يسر لي مولاي والحمد له **** وكل ما يعوقني سهله
وبعد توديعي أهلي والوطن **** شددت أحمالي وبالقلب حزن
كان رفيقي المهنا والولد **** سلطان حيثما قصدت من بلد
وفي صباح تاسع كان السفر **** والقلب للفراق كاد ينفطر
لكن من قد خطب الحسناء **** يستصغر المبذول والعناء
رحنا وبالقلب لفقدان الوطن **** ما لا يقاس من شجى ومن شجن
خروجنا من ذروة البديعه **** بهمة وعزمة منيعه
وكانت رحلة الذهاب عن طريق البر بواسطة السيارات والعودة عن طريق البحر وتخللتلها أحداث كثيرة. 
6- السفرة السادسة إلى الهند سنة 1393هـ:
في سنة 1393 ه أصيب الشيخ رحمه الله بكسر في ساقه استعصى على الأطباء علاجه وجبره فتوجه إلى الهند وعمل له الأطباء معدنا في ساقه ليساعد العظام على الالتحام وكان الكسر شينا. 
حادثة الكسر هذه ما فتئ الشيخ يذكرها دائما ويقارنها بحادث آخر وقع له أيام تردده على نزوى في إمامة الإمام الخليلي رحمه الله إذ كان متجها إلى نزوى أو قادما منها - والتردد مني - والوقت ليلا فنفرت راحلته وألقت به على الأرض بعد أن قذفته إلى الأعلى حتى كاد يلامس السماء ولما سقط قال: ما حسبتني أني سأقف على قدميّ ثانية ونظر حواليه وإذا بندقيته أشلاء ممزقة أما هو فإنه أثبت قدميه على الأرض منتصبا وأهوى على راحلته ممتطيا لها وما ناله من هذا الحادث كبير أذى ولا صغيره في حين أن كسر ساقه كان بسبب سقوطه من على سرير ارتفاعه عن الأرض لا يبلغ ذراعا واحدا وأدى إلى تهشم العظم وعجز الأطباء في مستشفى خوله عن علاجه. 
7 - السفرة السابعة إلى حج بيت الله الحرام ومنه إلى مصر سنة 1394 ه:
في هذه السنة خرج شيخنا رحمه الله قاصدا حج بيت الله الحرام يصحبه ولداه سلطان وخالد ولما تم الحج وأدى المناسك بدا له أن يسافر إلى مصر للكشف على ساقه وإزالة المعدن الذي ركب له بالهند فطار من جدة إلى القاهرة وتلقاه هناك الشيخ طالب بن علي الهنائي والشيخ صالح بن عيسى الحارثي ونزل ضيفا عليهما وعرض نفسه على الأطباء ومن بعد مضي شهر من الزمان عاد إلى الوطن. 
هذه أهم سفرات شيخنا البطاشي رحمه الله إلى خارج عمان كما أنه سافر للحج مرات عديدة من غير التي ذكرناها منها سفرته سنة 1399هـ وسفرات أخرى كان برفقة بعثة الحج العمانية وسافر للعلاج إلى الهند ثلاث مرات بدأ من سنة 1400 ه حتى سنة 1404هـ وفي السفرة الأخيرة صحبته وأجرى هناك عملية الماء الأبيض. 
المبحث الثاني: أعماله
يمكن تقسيم أعمال الشيخ محمد بن شامس البطاشي إلى قسمين بالنظر إلى طبيعتها: أعمال رسمية وأعمال عامه وأعني بالأعمال الرسمية العمل الحكومي والمتمثل في وظيفة القضاء والأعمال العامة هي ما سوى ذلك وسآتي إليها بالتفصيل. 
كانت بداية الشيخ رحمه الله مع القضاء سنة 1356هـ عندما تقلد قضاء ولاية قريات إلا أنه لم يلبث إلا شهورا قلائل حتى رجع إلى نزوى بجوار الإمام الخليلي الذي ولاه قضاء حمراء العبريين ولم يلبث بها إلا يسيرا هي الأخرى حتى عينه الإمام واليا وقاضيا على ولاية بدبد ووادي سمائل وذلك في أوائل سنة1361هـ. 
وفي سنة 1262هـ خرج الإمام الخليلي رحمه الله من نزوى قاصدا بلد الطو من أعمال ولاية نخل لحرب بعض البغاة المتمردين على حكم الشرع وكانوا ينهبون أموال الناس ويقطعون الطرق فنهض الإمام بجيش عظيم من نزوى ونزل سمائل واستدعى بني رواحة والرحبيين ونهضوا معه ومر بدبدا وكان يومها الشيخ محمد بن شامس واليا على بدبد وسمائل فصحبه إلى بلد الطو ولما وصلت جيوش الإمام وأحس البغاة بخطر الموقف ولوا مدبرين وهربوا في الشعاب وعلى رؤوس الجبال فهدم الإمام منازلهم وأمر بقطع نخيلهم جزاء جنايتهم وبغيهم ثم توجه الإمام من هناك إلى وادي المعاول ثم إلى نخل ولما هدأت الأحوال عاد الإمام بمن معه إلى نزوى. 
ولما تم الأمر للإمام الخليلي وأوقع بالبغاة ما أوقع قام الشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله وأنشد بين يديه قصيدتين وأخبرني الشيخ خالد بن مهنا البطاشي رحمه الله أن الإمام لما سمع إحدى هاتين القصيدتين أخذته أريحية وعقب بعدها بقوله: بطاشية بطاشية وأكتفي هنا بإيراد إحدى القصيدتين:
بسمر القنا والمرهف الصارم الخذم **** يقام منار الدين والكفر ينحطم
وبالعدل تخضر البلاد وتامن العبا **** د وينساب السبنتي مع الغنم
وهل يستقيم العدل إلا بثورة **** يخر لها عرش الضلال وينهدم
كثورة مولانا الإمام محمد **** همام غدا في كل مكرمة علم
غداة بغت في الأرض بكر بن وائل **** وجروا على الإسلام كل أذى وهم
فقام إمام المسلمين لصدهم **** عن الظلم في مجر كبحر قد التطم
وفي سابع ذي الخير كان نهوضه **** لسبع مضت في عام بس غش بسم
وبالجيش من نزوى لازكي مسيره **** فوادي بني عبس الكماة أولي الهمم
وفي عاشر أرسى بسحرا سمائل **** تحف به أقيال نزوى وتزدحم
وفيها دعا عبسا وهمدان والذرى **** جحاجحة الفيحا إلى نصرة الحكم
فلبوه لما إن دعاهم وما لووا **** رؤوسهم عنه ولا أظهروا السأم
فوافته عبس الأكرمون بسوحها **** لهم زجل في جحفل لجب يطم
وفي سابع والعشر منها قيامه **** بأرعن جرار له الأرض تنحطم
وبدبد وافاها عصيرا فرحبت **** بمدفعها والصمع تمطر كالديم
ومنها لفنجا قام فاستقبلته في **** غطاريفها أهل السوابق والشيم
تجمع فيها كل أشوس ضيغم **** ومن مسعر حربا وعلامة علم
وفاض لنحو الطو منها فأذعنت **** له وتلقته من السهل والأكم
وفيها سباع الدو أبناء جابر **** حموها بأطراف القنا السمر من قدم
وأما السبوع المفسدون وحزبهم **** فقد هربوا منها على هامة القمم
فأنفذ فيهم حكمه وقضى على **** صياصيهم بالهد والهدم والضرم
وصرم جنات لهم ومعاقلا **** لبغيهم كانت بها تهتك الحرم
فآضت مبانيهم يبابا ودورهم **** خرابا رماها الله بالبؤس والنقم
وسار لنخل بعد ذاك وفي أفي **** تلقته شمس الأكرمون أولو الهمم
وأرسل للأقيال من آل وائل **** فوافى بنخل أحمد الباسل الأشم
رئيس بني حراص لباه مذعنا **** وملتزما ما كان ألزمه الحكم
فألزمه أمر السبوع ووائل **** ولو شمخوا للفرقدين وللنجم
وإن بني الإسلام طرا تعينه **** على أمره إن قام بالأمر والتزم
وإن لم يقم بالأمر فهو محادد **** ويوخذ منه ما جنى القوم واجترم
بني وائل لا تسلكوا سبل الهوى **** فمن سل سيف البغي يسق به العدم
أما لبني الدنيا سبوع كمثلكم **** فهل قارفوا نهبا سمعتم وسفك دم
ألا إن في هذي القبائل حولكم **** سبوعا وسيدانا وأسدا لها أجم
ولكنهم زموا عن البغي والأذى **** فهلا كففتم شركم عن أذى الأمم
ألا فاسلكوا سبل الهدى واتركوا الهوى **** وقوموا لنصر الدين فالأمر قد لزم
وهذا الخليلي المؤيد بيننا **** تجرد في الدنيا لإزهاق من ظلم
أشاد به رب السموات دينه **** ومكنه من كل مستكبر غشم
يسير على نهج النبي محمد **** ونهج أبي بكر وفاروقنا الأتم
إمام الهدى قم للعدى وأذقهم **** كؤوس الردى بالمرهف الصارم الخذم
فحولك من أبناء نزار عصائب **** وقحطان أسد الغاب والكاشفوا الغمم
فما نكلوا في مرة إذ دعوتهم **** ولا جبنوا أو ظاهروا فيك من خصم
إلهي بنصر منك أيد إمامنا **** ومكنه ممن حاد عن دينك الأتم
وصل وسلم ما دعا لك راغب **** على المصطفى الهادي محمد العلم
وآل كرام مع صحاب عباهل **** وتابعهم ما حاد عن منهج الحكم
وظل الشيخ رحمه الله على كرسي الولاية والقضاء في بدبد ووادي سمائل حتى سنة 1364 ه عندما آثر الاعتزال والاعتذار للإمام الخليلي رحمه الله عن مباشرة مهامه لأسباب ذكرها في سيرته:
" وفي سنة 1364 ه خرجت من عمل بدبد لمضاجرة العمال القابضين لبيت المال وذهبت إلى نزوى واعتذرت للإمام وأراد أن يوليني عملا آخر لكني في الحال اعتذرت له ورجعت إلى الوطن ". أه. 
وفي تلك السنة 1364هـ تولى قضاء ولاية قريات غير أني لا أجزم بالمدة التي بقي فيها على قضاء الولاية وهل استمر بها قاضيا حتى سنة 1368هـ وهي السنة التي عينه فيها الإمام الخليلي قاضيا على جعلان بني بو حسن أم انه اعتزل قضاء قريات قبل توليه قضاء جعلان ومسألة الاعتزال هذه صارت أمرا معتادا عند الشيخ فإنه ما إن يتولى القضاء لفترة حتى يطلب الإعفاء بدليل أن تقضيه على ولاية جعلان لم يدم أكثر من شهر واحد اعتذر بعده للإمام الخليلي وعاد للوطن (المسفاة). 
ولا استطيع أن أقطع كذلك بتولي الشيخ رحمه الله قضاء ولاية قريات مرة أخرى من بعد اعتزاله قضاء جعلان أو انه بقي معتزلا القضاء حتى وفاة الإمام الخليلي رحمه الله سنة 1373هـ. 
وبوفاة الإمام الخليلي وتولي الإمام غالب مسؤولية الحكم وما تلا ذلك من نزاع مسلح مع حكومة السلطان سعيد بن تيمور بقي الشيخ محصورا في ولاية قريات لا يغادرها. 
ومع استلام جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله مقاليد الحكم في البلاد دخلت عمان في عهده مرحلة جديدة وعمتها نهضة تنموية شاملة وتوجه سياسي مختلف يقوم على التسامح والعفو واحتواء سائر أطياف التيار السياسي وهو ما أثمر سريعا وأتى بالنتائج المرجوة منه. 
كان الشيخ محمد بن شامس البطاشي أول قاض يتم تعيينه في الحكومة الجديدة بتوجيه من جلالة السلطان حفظه الله وظل الشيخ متربعا على كرسي القضاء أطول مدة زمنية لم يتخللها انقطاع من بين الفترات التي تولى فيها القضاء. 
وتعد هذه الفترة أخصب فترات الشيخ القضائية عطاء ونتاجا ومن المؤكد أن الاستقرار السياسي الذي شهدته البلاد أسهم بشكل فاعل في هذا الدفق العطائي زد على ذلك النضوج الفكري عند الشيخ الذي بلغ أوجه الأمر الذي أهله ليكون المرجع في شؤون القضاء في عمان. 
ولن أبالغ إذا قلت: إن الشيخ كان مدرسة في القضاء أفاد بعلمه وخبرته كثيرا من القضاة الذين كانوا يستشيرونه متى استعصت على احدهم قضية أو خالجه شك فيها فيلقى ضالته عند الشيخ ويركن إلى رأيه ويطمئن إليه. 
على أن هناك من القضاة من تتلمذ مباشرة على شيخنات البطاشي واخذ عنه وأخص بالذكر بعض خريجي معهد القضاء الشرعي الذين لازموه في مكتبه واستفادوا من أحكامه وبعضهم درس عليه في منزله. 
وفي سنة 1416هـ استعفى الشيخ من القضاء وطلب التقاعد وانقطع إلى المسفاة غير انه بقي يتردد على المحكمة الشرعية كلما دعت الحاجة لأخذ مشورته كما أن القضاة كانوا يقصدونه في منزله للتباحث في بعض المسائل والأحكام القضائية وهناك من كان يستفتيه منهم بواسطة الهاتف. 
هذا ملخص لمجمل رحلة الشيخ محمد بن شامس البطاشي القضائية والعمل الرسمي الوحيد الذي تقلده في حياته أما ما سوى القضاء من أعمال أخرى عامة لا سيما الحرفية منها فكان له باع في كثير منها. 
كان مزارعا أحسن ما يكون عليه أهل الخبرة والمعرفة بالحرث والزرع وله دراية بالنخيل والثمار ويرجع إليه أهل الفلاحة في شؤون حرفتهم. 
كان ضابطا لأوقات السقي وعارفا بقسمة حصص الماء لا يشكل عليه تحري وقت السقي أكان ذلك بواسطة شمس الظهيرة أم بنجوم العتمة ويحسب له أنه هو من صرف أهل المسفاة عن ضبط وقت السقي بالطريق التقليدي إلى حساب الساعة المستخدم الآن على نطاق واسع في الكثير من بلدان عمان. 
واشتغل الشيخ في صيانة الأفلاج وإصلاح السواقي وهو الذي عمر بلدة المنثقب مع أخيه الأكبر الشيخ عدي بن شامس ووضع هندسة دقيقه لساقية الفلج جرى على إثرها الماء دون أن يعترض طريقة عائق أو مانع. 
غرس شيخنا في المنثقب وحدها مقدار ستمائة نخلة من شتى الأصناف ناهيك بعمارته عدة مزارع وضواحي من المسفاة وعباية وحيل الغاف وقريات. 
لم يأنف شيخنا عمل الزراعة يوما ولم يتأفف منه ولو أراد الكفاية من غيره لكفاه ولكنه كان يعشق العمل ويرى فيه كمالا للرجال وقواما للحياة. 
المبحث الثالث: أخلاقه
العهد بالعلماء أن يكونوا في محل الاقتداء وكمال الخلق فهم ورثة الأنبياء وصفوة الخلق وملاذ الناس وملتجأهم إذا دهمهم خطب أو غشيهم جلل. 
هذه القاعدة الأخلاقية لا يشذ عنها إلا ناشز عن نواميس العلم وقوانين المعرفة الإنسانية فالعالم في نظر مريديه وأتباعه هو الإنسان الكامل الذي يقبسون من أخلاقه وآدابه ويتمثلون سيرته كما ينهلون من علمه وفكره. 
وكان العلماء وما زالوا يتسنمون تلك المكانة الرفيعة والمنزلة السامقة ومن أمعن الفحص في سير الأصحاب ألفاهم أنقى الناس سريرة وأصفاهم سيرة وأكثرهم اتباعا للهدي النبوي. 
والشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله أحد هؤلاء الأقطاب العاملين المتخلقين بشمائل النبوة والمتصفين بمكارم الأخلاق فكان رحمه الله مسارعا إلى الطاعات مغتنما الوقت في مرضاة الله آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر صابرا على نوائب الزمان ونكبات الدهر محتسبا في الله كل بلية ونازلة بعيدا عن الترف والخيلاء باديا عليه التقشف والزهد مكتفيا من دنياه بما يسد به رمقه مستكثرا من القليل باذلا في سبيل الله للجزيل شاكرا لأنعم الله يقول الفصل ويجتنب الهزل يعفو عن المسيء ويحلم عن الجاهل لا يغضب إلا أن تنتهك محارم الله. 
هكذا عرفت الشيخ رحمه الله وهكذا هو كما يعرفه معاصروه ويشهد له العلماء وطلاب العلم. 
عرفته متواضعا هاضما للنفس محتقرا لها لا يدعي العلم ولا يحب الإطراء والمديح بعث إليه احدهم سؤالا تخلله بعض الثناء فاستهل الجواب رحمه الله بقوله:
أتاني نظام مثل عقد الفرائد **** من المنتمي لي من سعيد بن راشد
ولكنه في المدح غالى وزاد عن **** مداه وأضحى خارجا عن مقاصد
ويجيب آخر بقوله:
أجمعة لا تمدح إذا جئت سائلا **** فلست أحب المدح لا والتشدقا
ويقول في جواب آخر:
فهذا جوابي ثم لا تمدحن إذا **** أردت سؤالا واتق الله ذا العلى
ويظهر تواضعه في جواب آخر بقوله:
ولم أك للتسآل أهلا وكيف لي **** بحل عويص المشكلات وما انبهم
أتسأل عبدالله من عاش لاهيا **** عن العلم بالنومات والجهل فيه طم
وتمدحني في الشعر حتى كأنني **** أنا المصعبي الحبر أو جابر العلم
وعلك تجحد أنني لست عارفا **** وغير خبير ما لنفسي من القيم
وتأخذني عند الثنا أريحية **** فأهتز مثل الصارم الباتر الخذم
رويدك إني أعرف الناس كلهم **** بقدري فدعني من مديحك والكلم
وان تأب إلا القول مني فهاكه **** جوابا بتيسير من الواحد الحكم
ويجيب أحدهم مرشدا له إلى تحري الصواب والحق:
ولكنك استسمنت ذا ورم متى **** أتيت لنحوي بالثنا تتسرع
فهاك جوابا خذ به إن يكن هدى **** وحقا فإن الحق والصدق مقطع
وإن باطلا فاضرب به عرض حائط **** فليس بغير الحق في الدين موقع
وسل لي توفيقا من الله إنني **** إلى الله في كل المطالب أضرع
بل إنه يصدر موسوعته سلاسل الذهب بما يوحى إلى ضعفه وعدم أهليته للتأليف وقصور باعه عن مجاراة فحول العلم ويبتهل إلى الله تعالى أن يجبر كسره ويفك رهنه ويصلح أمره وييسر له ما عزم عليه:
ولم أكن أهلا لذي الأمور **** أين أنا من شأنها الخطير
أعرف نفسي وسواي يعرف **** بأنني عن مثل ذاك أضعف
لا سيما مع هذه الموانع **** والمحن العظيمة القوارع
وعدم القرين لي والناصر **** وسوء فهمي غامض الدفاتر
وضعف حالي من كلا الأمرين **** يا رب يسر لي غنى يكفيني
أسألك اللهم جبر كسري **** وفك رهني وصلاح أمري
وأسأل الرحمن أن يوليني **** علما وفهما وثبات دين
لاهم علمني وزدني رشدا **** وسد عني الموبقات سدا
وبما ذكرت من شواهد ونصوص كفاية عن المزيد وإلا ففي جوابات الشيخ ومؤلفاته مما يدل على تواضعه وعدم حبه الظهور ما يستغرق صفحات وربما مجلدات. 
ولم يكن تواضعه رحمه الله مقتصرا على النقول ومستمدا من أقواله فحسب بل هو مشاهد ومحسوس في يوميات حياته في ملبسه ومسكنه وهيئته وفي كل شيء حوله. 
ترك رحمه الله السرير زهدا فيه وكان نومه على الأرض ومسكنه ابعد ما يكون عن الترف وكم من كماليات الحياة المعاصرة لم يكن لها بمنزله وجود حتى التلفاز الذي يعتبره جمهور الناس من ضروريات الحياة لم يكن له مكان بمنزل الشيخ الذي بالمسفاة ناهيك عن أن الشيخ رحمه الله لا يشاهد التلفاز أصلا ويعتبر الجلوس أمام شاشته مضيعة للوقت وقد يكون مفسدة للدين. 
لا يبخل الشيخ بالنصح متى ما دعا الموقف إليه ولا يتحرج من إبداء النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا بدا ما يوجب ذلك. 
كتب لبعض القضاة في حكم حكم به ذلك القاضي وبين له رأيه الشرعي فيما حكم وختم كتابه بقوله: " القضاء مزلة الأقدام ومظلة الأفهام ". 
والعبارة دعوة صادقة إلى التريث في اتخاذ القرار الصائب وعدم التسرع في إنفاذ الأحكام لخطورة ما يترتب عليها. 
وكتب إلى قاض آخر يدعوه إلى النظر في الأمر وتحري الصواب: " والحاكم إلى نظره أحوج منه إلى أثره فنحن منعنا أولا بنظر ونبيح اليوم بنظر وأنت انظر في هذا فإن رأيته صوابا فاعتمده وإن رأيت غيره فأنت الحاكم والنظر إليك ". 
وكتب إلى قاض آخر يطلب منه مراجعة حكم صدر منه بعد أن بين له مأخذه عليه وساق الدليل على رأيه ولم يغفل أن يذكر القاضي بموقفه غدا للحساب أمام رب الأرباب: " انظر إلى هذه الوصية بدقة وما يقتضيه لفظها فإن حرمان من له حق من حقه فيه حرج كبير وللقضاة في غد مواقف بين يدي الله فلينظر الإنسان فيما يقوله وفيما يحكم به والله عند لسان كل قائل اللهم إنا نعوذ بك من القول بغير الحق ومن الركون إلى الهوى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ولا حول ولا قوة إلا بالله ". 
وربما طلب الشيخ رحمه الله المشورة والنصح من غيره فكم من قضية كان يشاور فيها إخوانه من أهل العلم قبل أن يصدر فيها حكما فما خاب من استشار. 
وهذا كتاب منه توجه به إلى علماء عمان يدعوهم إلى التباحث والتشاور حول قضية رفعت إليه يطلب منهم إبداء رأيهم حسما للنزاع وقطعا للخلاف. 
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة المشايخ الكرام الجلة العلماء إبراهيم بن سعيد العبري وإبراهيم بن سيف الكندي وسالم بن حمود السيابي وهاشم بن عيسى وأحمد بن حمد ومحمد بن راشد
سلام عليكم ورحمة الله محبكم بخير ولا علم إلا الخير والحمد لله وبعد:
فالموجب البيان قد عرض سعيد بن حمد الوهيبي شكوى من نساء من أهل حطاط خرج أزواجهن إلى السعودية منذ سنين وأقاموا هناك بائعين أوطانهم تاركين أزواجهم بغير مبالاة ولا مروة ولا حياء ولقد طال بالنساء العهد وأفنين الصبر والآن نهضن يطلبن حقهن من المعاشرة بعدما عيل صبرهن ويطلبن الطلاق فما رأيكم في الموضوع وقد علمتم ما في الأثر وكلام العلماء ونظر كل من القائلين فينبغي أن نجتمع في المسألة على رأي حاسم للنزاع. هذا والسلام محبكم محمد بن شامس 21 رمضان 1393 ه. 
إن من الأخلاق الحميدة التي اشتهر بها الشيخ وعرفه بها العام والخاص والقريب والبعيد الإصلاح بين الناس وتقريب وجهات نظرهم ولم شملهم والدعوة إلى توحيد الكلمة والألفة والمحبة ونبذ الفرقة والعصبية ومن أعمل فكره في أرجوزة له اذكر جانبا منها يدرك المقدار الكبير الذي يوليه للإصلاح وللتوافق بين الخصوم. 
يا أيها الإخوان والخلان **** بني عرابة ويا همدان
ما ذا الشقاق بيننا وبينكم **** وذا الجفا هل سرنا أو سركم
ما ذا البعاد بيننا هل على **** قلوبكم أكنة فتضللا
هل جهلتم نسب الأوائل **** من أين أنتم يا أولي الطوائل
ألم يكن همدان جدكم إلى **** زيد بن كهلان ترقى وعلا
أبناء عم الأزد أنتم فاعلموا **** وإننا الأزد أبونا الأيهم
وهؤلاء جدهم عرابه **** سليل شرخ أبه خطامه
سليل سعد بن نبهان فتى **** عمرو بن غوث بن طيء أتى
ليسوا في الأوس ولكنهم **** من طيء أهل العلى أصلهم
وهكذا آل وهيب منهم **** ومنهم هادية وأخزم
أما بنو بطاش ليسوا من بني **** طي فهم عن طيء في سنن
بل أصلنا من آل غسان اعلم **** وجدنا جبلة بن الأيهم
يجمعنا وأنتم قحطان **** أخو العلى وقبله كهلان
فكلنا من يمن فما لنا **** نفترق الآن فنفري بعضنا
ما هذه الفرقة من نزار **** وهذه من يمن الأخيار
وليت شعري ما نزار واليمن **** هل شرع الله لنا هذا وسن
أما محمد نبي الكل **** جاء لنا بالذكر بعد الرسل
وشرعنا الهدى أرانا السبلا **** وربنا الرحمن جلا وعلا
واسمنا الإسلام إبراهيم **** سما لنا نبينا الكريم
لا نعرف النزار أصلا واليمن **** وغيرهم لا بل لهذا نعرفن
نعرف أننا على دين الهدى **** ومن سوانا لعلى حرف الردى. 
فهو إذا يدعو إلى الوحدة ونبذ الشقاق وينادي بالإخوة ويذكرهم بأخوة النسب وبأخوة الدين وبأسباب الاجتماع وأن هذه العوامل توحد ولا تفرق وتجمع ولا تشتت. 
لقد بلغ من ورع الشيخ رحمه الله وتعففه واحتياطه لدينه وحرصه على سلامة خلقه واجتنابه لمواطن الريب والشبهات اعتزاله قومه بني بطاش مدة من الزمن لما أحس منهم الرغبة في أن يطاوعهم على ما لا يوافق شرع الله ورأى أن السلامة له في اعتزالهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى صوابهم استمع إليه وهو يتحرق من ألم الفراق والبعد عن الوطن والأهل والعشيرة:
وداع من فؤاد غير قالي **** إلى بلدي وإخواني وآلي
أودع والفؤاد به اضطراب **** وإني عن بلادي غير سالي
ولكني جعلت الصبر درعا **** وحسن الصبر من شيم الرجال
سأجعل هجرتي ومحط رحلي **** بواد العرب ما بين الجبال
وأخدم ملتي وأصون ديني **** وعرضي من ملاحاة الرجال
بنو بطاش ما شكروا لسعيي **** وصبري في الملمات الثقال
لقد ضرب شيخنا من خلال تأريخه للأحداث المثل الذي يقتدى به في نقل الأمانة التأريخية والبعد عن التعصب المذموم والانجراف وراء الحميات الجاهلية فها هو يبرأ بملء فيه من فعل سلفه من أهل القرابات عندما يرى أن أفعالهم ليست على سواء السبيل وأنهم خالفوا الحق وجانبوه فإنه لا يتردد في التبرؤ من أفعالهم والتندم والتحسر على صدورها منهم غير ممالئ لهم ولا ملتمس عذر لفعلهم بل يوبخهم ويقرعهم على فعلتهم تلك فالحق أحق أن يتبع والباطل مردود على أهله وإن عزوا. 
استمع إليه رحمه الله وهو يذكر قيام البغاة على الإمام الرضي عزان بن قيس رحمه الله وجمعهم الجموع لحربه ومسيرهم إليه فبعد أن ذكر عموم البغاة وقبح صنيعهم عرج على ذكر أهل القرابات وتبرأ إلى الله من فعلهم فقال:
ساروا إلى أن قد أتاهم حرم **** أبناء بطاش وما تقدموا
فأرسلوا رسولهم إليهم **** ويطلبون للطريق منهم
كان بنو بطاش ممن نافقا **** وخان في إمامه وما اتقى
وقد مضى شماس بالكتب لدى **** أعمامه لينظروا فيما بدا
فكان رأي شامس بن خنجر **** ورأيه أن يكتبا للعسكر
أنهم يمضون في الطريق **** بدون محذور ولا تعويق
وتلك ما أنحسها وأشأما **** يا ليتهم جاءوا برأي أقوما
تلك التي قد قوضت عروشنا **** وأورثتنا الذل بعد والعنا
فمر جيش الخارجين ووصل **** إلى قريات ومنها قد رحل
وهذا الموقف يتكرر منه دائما عند الحديث عن ذلك الأمر فقد سمعته أكثر من مرة يقول: ليتهم اتبعوا الحق ولم ينازعوا الأمر أهله ويرى أن ما أصابهم من نكبات لاحقة إنما كان بجريرة بغيهم وخيانتهم للإمام عزان ذكر ذلك في أحداث دولة السلطان تركي بن سعيد سنة 1304 ه فقال وهو يتكلم عن زحف جيش السلطان على بلاد بني بطاش:
وبعد ذا أمّ إلى المزارع **** فلم يكن هناك من مقارع
فهدموا برج بني شماس **** هدوه من أعلاه للأساس
وبعد هدم البرج عنها رجعوا **** حيث بهدم البرج كانوا قنعوا
وحملوا من الأسارى عمنا **** سليل خنجر المهنا في عنا
وألزموه دفع ما الجيش غرم **** جميعه جزاء ما كان اجترم
هذا جزاء البغي والعناد **** والسعي بين الناس بالفساد
وهذه خيانة الإمام **** عزان ذاقوها على التمام
ويشير في قصيدته التي ذكر فيها نسب بني بطاش إلى حرب سنة 1304 ه والتي كانت بقيادة السيد فيصل بن تركي أيام حكم والده:
أودى فخلف للمكارم شامسا **** ليث العرين الضيغم المقداما
أسد غذا لبن المعامع مذ نشا **** فتفيأ العز الأثيل مقاما
لولا بنو أعمامه كادوا له **** لرقى على هام السماك مقاما
قد شاد حصنا بالبديعة مشبها **** غمدان سيف رصه إحكاما
وأشاد بالوادي فدينا مثله **** بالجص ألجم بُنيََّه وأقاما
ناهيك عن عبد شراهم للوغى **** لما تحاشا قومه وتحامى
هموا به غدرا فصال عليهم **** كالليث أمسى ضاربا أغناما
فمضى ولم تبك الليالي فقده **** وأثار بين جوانحي إضراما
ذاق الردى في عام ألف بعدها **** مئتان مع تسعين عاما عاما
أبقى لخنجر جدنا ومحمد **** سكنا البديعة بعده أعواما
حتى دهاهم فيصل بجموعه **** فاهتد منها السور والآكاما
أمست معاقلهم وأمسى عزهم **** في الترب صيره الزمان حطاما
والحمد لله الذى من فضله الأس **** نى كسانا العلم والأفهاما
هذه شهادة أسجلها لموقف من أنبل المواقف ينبغي أن يتصف به كل من تحمل مسؤولية كتابة التاريخ وتدوين الأحداث يكتب الواقع كما هو دون تغيير للحقائق أو تدليس لمجرياته وأن يتجرد من جميع العصبيات المذهبية والقبلية والسياسية وألا يقوده ولاؤه القبلي أو انتماؤه المذهبي إلى أن يخون الأمانة التي تصدى لحفظها. 
وكانت نفس الشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله أبية كريمة تأنف المخازي والرذائل وتسموا إلى المكارم والفضائل ولما وقف رحمه الله على بيتين فيهما دعوة صريحة إلى السقوط الأخلاقي والتمرد على قوانين الشرع أبى إلا أن يرد على قائلهما ويفضح دعوته تلك ويكشف للناس عوارها والبيتان اللذان وقف عليهما هما:
إنما العيش خمسة فاغتنمها **** واتخذها نصيحة من صديق
من سلاف وعسجد وشباب **** وزمان الربيع والمعشوق
فقال شيخنا رحمه الله معارضا:
إنما العيش خمسة فاغتنمها **** واتخذها نصيحة من صديق
طلب العلم والتقى وجهاد الكف **** ر بذل الندى أداء الحقوق
فاحمل النفس ما استطعت عليها **** فهي أحلى من السلاف الرحيق
ودع اللهو والمجون وشرب ال **** راح واللثم من فم المعشوق
تلك حال والله لا يرتضيها **** غير نذل وساقط في الطريق
وهو مع تواضعه دائم الاعتزاز بنفسه لا يرضى لها الهون والذل ولا يقرها على الخنوع والاستكانة بل يسموا بها إلى أعلى المراتب استمع إليه وهو يخاطب ابن عمه الشيخ خالد بن مهنا البطاشي في قصيدة له استهلها بهذا المقطع:
أخالد إن الدهر جم العجائب **** وإني قد مارست كل النوائب
فما أوردتني مورد الذل مرة **** ولا أنزلتني عن علا من مراتب
فإن كنت قد لاقيت فيها صعوبة **** فإن طريق الخير صعب المراكب
والقصيدة من المطارحات الإخوانية بين شيخنا والشيخ خالد وكانت تقدمتهما قصيدة للشيخ خالد يخاطب فيها شيخنا بدأها بقوله:
محمد مالي والخطوب النوائب **** ومالي وإدمان السرا في السباسب
أكلف نفسي ما يهول اتقاءه **** كواهل رضوى من عظام المطالب
بعاد وتفريق وصد وجفوة **** فياليتها بيني وبين الجوانب
وهجرك مما يورث القلب حسرة **** وأشجى الشجى هجر الكرام الأطايب
وحسبك طرد الرحل عن خير بلدة **** وصرم وصال من حقوق الأقارب
ويستطرد شيخنا رحمه الله في ذكر ما يعتز به من المناقب والصفات الحميدة تارة بالتصريح بها وتارة بذم نقيضها:
ولست امرأ صادته بيضاء غادة **** منعمة تزهو بعين وحاجب
وجيد كأجياد الظبى ومقبل **** يلوح كبدر التم بين الغياهب
إذا نظرته نظرة هام وارتمى **** صريعا على أحشائها والترائب
يبيت يفديها بإنسان عينه **** فتنسيه عن أوطانه والأقارب
ويسوقه الشوق والوجد إلى تذكر ربوع أقام فيها العدل برهة أيام كان واليا عليها:
خليليّ سوقا العيس من طائف إلى **** بديعتنا مرسى الهدى والمناقب
وعوجا لرم السدر وقفة قابل **** لدى الشهم عمرو ذي العلا والمواهب
وشدا عليها كورها وزمامها **** وسيرا بها قصدا لنحو المغارب
وعوجا إلى وادي سمائل وانزلا **** ببدبد في أعلا الذرى والمراتب
ربوع لهمدان الذرى ومواطن **** نشرنا بها دين الهدى بالقواضب
فإن أنتما جاورتما أرض ملتقى **** وخليتما هصاص عنكم بجانب
فعوجا إذا عاينتما من سمائل **** مباني عز جاورت للثواتب
وأما إلى الحصن المنيف وبلغا **** سلامي أخونا بتلك المناصب
سلام امرئ أورى الأسى فيه جذوة **** وأضرم نارا فيه بين الجوانب
ويعود في موضع آخر من قصيدته ليؤكد على اعتزازه بوطنه وأهله وعشيرته:
فشرق وغرب واتخذ كل موطن **** فلست براء عزة في الأجانب
لعمرك ما عز امرؤ ذل قومه **** ولو وطئت نعلاه هام الكواكب
أخاك أخاك إن من لا أخا له **** كساع إلى الهيجاء بغير قواضب
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه **** مقالا لأرباب العلا والتجارب
ستؤويك من غسان أهل حفاظها **** بنو ناصر أهل العلا والمراتب
والشيخ رحمه الله يقف على الأحداث والابتلاءات وقفة معتبر متعظ وهذا حال المؤمن دائما يستخلص العبر والدروس من خلال معايشته للحدث. 
ومن الحوادث الكبرى التي كان لها وقع على نفس الشيخ جائحة عظيمة أصابت البلد واجتاح فيها الوادي كل ما اعترض طريقه حتى خاف الناس على أرواحهم كانت هذه الجائحة سنة 1354هـ وقد أرخها الشيخ بأرجوزة طويلة وصف فيها تسلسل الأحداث لحظة بلحظة وصور هول المشهد على وجوه الناس والخوف الذي اعترى الجميع ثم يختم الأرجوزة مذكرا إياهم بقدرة الله وبوجوب الاتعاظ والاعتبار من مثل هذه الحوادث وضرورة التوبة والأوب من الأوزار والذنوب قبل فوات الأوان ويظهر التذلل لمولاه وتبتله إليه ويسأله عفوه وغفرانه ومما جاء في الأرجوزة:
هذا لعمر الله أمر أعسر **** أرسله الله لكي تعتبروا
من كان ذا عقل وسمع وبصر **** فليتعظ فإنها إحدى الكبر
أرسلها الله نذيرا للبشر **** من قبل أن يصيبهم حر سقر
يا أيها الناس أما آن لنا **** أن نرفض اللهو ونترك الدنا
إن صروف الدهر تأتي بالعبر **** لو قد عقلنا ودرينا ما الخبر
غرتكم الدنيا وألهتكم فما **** منكم بصير بل عراكم للعمى
من لم يكن منه عليه واعظ **** قد قيل لا تنفعه المواعظ
فانتبهوا واتعظوا فما أرى **** دنياكم إلا تحث السفرا
يا رب سلمني من الآفات **** ومن حلول البوس والنقمات
ومن عذاب سقر سلمني **** رب وأدخلني جنان عدن
علمت حقا أنني مقصر **** لكنني أعلم أنت تغفر
فإن يكن يا رب ذنبي أعظم **** فعفوك اللهم منه أعظم
فاغفر ذنوب العبد يا رباه **** واسمع نداه واستجب دعاه
وتتكرر ذات الحادثه سنة 1417هـ أي بعد زهاء ثلاث وستين سنة من وقوع الحادثة الأولى ويؤرخها الشيخ كذلك بأرجوزة لا يغفل فيها عن وعظ الناس وتذكيرهم بخالقهم وزجرهم عن ارتكاب المعاصي يقول فيها:
هذا لعمر الله إنذار لكي **** تنتبهوا وتقلعوا عن كل غي
فلتتقوا ربكم يا قومي **** من قبل ما إن ترجعوا باللوم
واجتنبوا المعاصي الكبارا **** وكل أمر يوجب الدمارا
فالله ربي بالعباد أرحم **** يقبل للمتاب إن ندمتم
المبحث الرابع: منهجه الدعوي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان شرعيان بهما يستقيم أمر المجتمع ويصلح حال أفراده وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا استحقوا العقوبة من الله تعالى ولقد ضرب لنا السلف الصالح أروع المواقف وأجلى العبر في دعوتهم الناس إلى الحق وإرشادهم إياهم إلى الخير وتحذيرهم لهم من فعل المعاصي والموبقات. 
والشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله ما توانى نفسا عن القيام بواجبه الدعوي وله في ذلك منهج متوازن يراعي فيه أحوال الناس والمجتمع فتارة يشتد في إنكاره حتى ليكاد فاعل المنكر يموت فرقا وأحيانا يكتفي بإشارة يكون لوقعها أبلغ الأثر في نفس صاحبها وفي كلا الحالين يكون المنكر واحدا ولكن لاختلاف طبائع البشر وتباين أخلاقهم ناسب أن يكون دواء أدوائهم متوافقا مع تلك الطبائع والأخلاق وسأضرب مثالا على ذلك بشرب الدخان وهو منكر عظيم وكان الشيخ رحمه الله يزجر عليه زجرا شديدا بل انه ما كان يتجرأ احد بشرب الدخان بحضرته وإلا ناله منه أذى كبير. 
وفي عهد الإمام الخليلي رحمه الله كان الشيخ يعزر على شرب الدخان بالجلد تسعا وثلاثين جلدة وصادف أن كان رحمه الله واليا للإمام على بدبد ووادي سمائل وهذا في الفترة الممتدة من سنة 1361هـ إلى سنة 1364هـ ويومها كان سوق المنكر كاسدا إلا ما ندر ومن هذه النادرات أن امرأة أغواها الشيطان كانت تبيع الغليون وتتاجر به سرا ولما أراد الله فضحها بلغ أمرها شيخنا فتوجه إليها بالعسكر وسألها عما اتهمت به فأنكرت فأمر بالدار ففتشت فما عثروا على شيء وكانوا هموا بالمغادرة لولا أن رائحة التبغ الكريهة أزكمت أنوفهم فلم يخالجهم شك أن المرأة تكذب في دعواها فأعادوا الكرة وبحثوا من جديد وعثروا على التبغ بداخل حفرة في الدار سترتها بغطاء ثم فرشت عليها سجادة واتخذتها مقعدا. 
عندها تحققت التهمة بشأنها ووجب عليها الأدب والتعزير قال الشيخ رحمه الله وهو يخبرني بأحداث هذه القصة: لما أردت أن أعزرها على فعلتها رأيتها عجوزا لا تقوى على الضرب وبها من الضعف ما خشيت إن أنا عزرتها أن تموت وما كنت بتارك تعزيرها خوف أن تتمادى وتستهين بالشرع الشريف فأمرت احد العساكر يأتيني بعسو (عسيب) فضربتها به ضربتين أو ثلاث كانت كافية لردعها عن فعل هذا المنكر مرة أخرى. 
ولنا وقفات نستجلي منها بعض العبر مع أحداث هذه القصة أولها: أن عهد الإمام الخليلي رحمه الله كعهد غيره من الأئمة السابقين كان عهدا زاهرا راشدا لا مكان فيه للمنكر وان كل من يخالف أحكام الشرع تطاله العقوبة الرادعة ولإن كان شرب الدخان يعد جرما يوجب التعزير فما بالك بالجرائم الأعظم كالزنا والخمر وسواهما من الموبقات فإنها لأوجب بالعقوبة وألزم وكان الإمام أو من ينوب عنه يحد عليها. 
وثانيها: أن من كتبت عليه الشقاوة ووافق هواه إبليس اللعين وجر رجليه إلى مستنقع المنكر فإنه يحاذر أشد الحذر أن يجاهر بذلك المنكر ولا يجد حيلة إلا أن يغلق عليه بابا بعد آخر أو أن ينأى بنفسه في الصحارى والقفار حيث لا تراه عين ولا تسمع به أذن لأنه يدرك أن العقوبة لاسعة وربما تفضي به إلى الهلاك. 
وثالثها: أن في الاقتصار على تعزير المرأة العجوز على ضربتين أو ثلاث لحكمة بالغة وهو من وسطية الإسلام واعتداله فإن الشيخ لما علم أن المرأة لا تقوى على الضرب الكثير وأنها ربما تهلك لو ضربها أكثر مما تطيق عدل عن الضرب الكثير إلى الضرب القليل ولم يعفها من الضرب إطلاقا لأجل أن يوجعها فتزدجر عن العودة إلى فعل المنكر. 
قصة المرأة العجوز هذه تذكرني بقصة شبيهة لها في المضمون وصاحبها رجل يسمى بشدر كان يعمل وكيلا عن المدعين وهو المسمى بلغة اليوم محاميا وبحكم عمل بشدر فإنه كان كثير الالتقاء بشيخنا سواء في المحكمة أم في البيت والرجل من ظاهره لا تبدو عليه سمات منكرة والشيخ يحسن الظن فيه إلى أن بدا للشيخ السفر إلى الهند للعلاج ووافق أن بشدرا كان بالهند للغرض نفسه فلما علم بوجود الشيخ جعل يتردد عليه للعيادة في الفندق ثم أراد الشيخ أن يرد العيادة لبشدر فقصده إلى حيث يقيم في الفندق وسأل عن غرفته ودل عليها فلما وصل الغرفة وكان الباب مفتوحا قابله بشدر وعود السجائر في فيه وهنا كانت المفاجأة لكلا الرجلين للشيخ الذي لم يكن يتوقع من بشدر هذا الفعل المشين وهو الذي كان يحسن فيه الظن ولبشدر الذي عقدت المفاجأة لسانه وغلت يديه وشلت حركته وأقعدته عاجزا عن الحراك لما يعلم من بغض الشيخ للفعل الذي أتاه. 
ولما شاهد الشيخ بشدر على تلك الهيئة عاد أدراجه وقفل راجعا من حيث أتى ولم ينبس لبشدر ببنت شفة ولم يعاتبه بكلمه واحدة فضلا عن أن يزجره أما بشدر فإنه أحس بعظم جرمه وبقي متواريا عن نظر الشيخ مدة إقامته في الهند. 
لم يشأ الشيخ رحمه الله أن يظهر غضبه لبشدر ساعة مشاهدته له وهو يدخن السيجارة وإنما ادخر ذلك لوقت آخر ولعله تفرس في بشدر رجوعه إلى الله تعالى بتأنيب الضمير. 
لقد كان لتلك النظرة الفاحصة من الشيخ وقع السحر في نفس بشدر جعلته في صراع مع نفسه لم يهنأ بلذة الحياة ولم يعرف للطمأنينة طعما أو ذوقا مقدار شهر من الزمان بعد رجوعه إلى عمان. 
أدرك بشدر أنه أخطأ في حق خالقه وعظم عليه تأنيب ضميره له وتعذيبه إياه لمجرد نظرة بغته بها مخلوق مثله فكيف بخالقه الذي لا تعزب عنه خافية في الأرض ولا في السماء. 
أراد بشدر أن يصلح ما بينه وبين خالقه بعد معاناة استمرت شهرا أو تزيد وبعد حسرات من الندم يتلو بعضها بعضا. 
لقد أراد بشدر أن تكون توبته نصوحا وعلى ملأ من الناس وأمام حشد من القضاة وأهل العلم فأعلنها مدوية بين جنبات وأروقة المحكمة الشرعية. 
دخل بشدر قاعة المحكمة بعد انقطاع طويل رافعا صوته بالتوبة معلنا ندمه وأسفه مستغفرا الله لذنبه ودموعه تسيل على خديه وعبراته تترادف والناس حيرى من هول ما ترى وتسمع. 
تقدم بشدر من شيخنا وأعلن أمامه توبته وطلب منه أن يحلفه يمينا بالله لا يعود إلى شرب الدخان ثانية والشيخ يقول له: تكفيك توبتك يا بشدر ولا تلزمك اليمين وبشدر يصر ويلح على اليمين ولا يريد أن يقتنع أن اليمين لا تلزمه هنا ومع إلحاحه الشديد على الحلف مد له الشيخ يمينه وتلا عليه بعض آيات من القرآن الكريم وهو يردد خلفه ويظن أنه يحلف يمينا حتى إذا فرغ من ذلك قال له الشيخ لقد عاهدت الله يا بشدر أن لا تعود إلى الدخان فلا تكذب على مولاك فقال والله لا أعود لا أعود وإني لأشعر أن جبلا انزاح عن كاهلي الساعة. 
تاب بشدر إلى الله من شرب الدخان وتركه نهائيا وحسنت صلته بالله بسبب نظرة من الشيخ نظرها إليه كانت كفيلة بأن تغير من سلوك بشدر وتجعل منه رجلا آخر. 
إن في قصة بشدر والمرأة العجوز مثالا يحتذى به في كيفية التعامل مع الأشخاص وفي انتهاج الأسلوب الأمثل للدعوة وأن المنكر ليس بالضرورة تغييره باليد بل قد يكون للسان والكلمة الطيبة أثر في النفس أبلغ من ضرب السياط وعلى الداعية أن يراعي أحوال الناس وأن يتلطف معهم في القول قبل أن يشتد عليهم. 
ووضع الندى موضع السيف بالعلا **** مضر كوضع السيف في موضع الندى
وللشيخ رحمه الله هذه الأبيات من السلاسل يروي فيها مشاهدته لشرب الدخان في حرم مكة المكرمة وأمام البيت المعظم ويقص ما جرى بينه وبين أحد أعيان مكة حول ضرورة إنكار شرب الدخان والعذر الذي التمسه ذلك الرجل لشارب الدخان وسوغ به السكوت وعدم الإنكار. 
ومرة في مكة المكرمه **** إذ زرتها لحجة معظمه
وقد لقيت عند باب الحرم **** والمسجد المطهر المعظم
من هذه الأقذار ما قد ضاق له **** صدري ولا استطعت أن أقابله
وقد لقيت البعض من أعيان **** من أهل مكة ذي العرفان
وقد جرى الكلام في الدخان **** وحكمه في شرعنا المصان
فقال لو قلنا بتحريم التتن **** لم يبق عدل في البلاد مؤتمن
لأن كل الناس يشربونا **** له وعنه ليس يصبرونا
انظر إلى الوجه الذي به أحل **** شرب الدخان والذي له عدل
حينئذ أمسكت للعنان **** عنه وما جاريته في شان
لاهم جنبنا من الأقذار **** ونجنا من عاره والنار
وأحيّ ما أحييتنا على الهدى **** وإن أمتنا أمتنا شهدا
ونجنا اللهم من شر البدع **** يا رب وارزقنا لحسن المتبع
إن من المناكر التي ما كان يسمح بها الشيخ في المسفاة وكان يعاقب عليها بالضرب والأدب قرع الطبول ولعب السفهاء الزار وغيره لقد طهر الله بلدنا من هذه المنكرات بفضل الشيخ رحمه الله وهذه الأفعال يأتيها فئة معينة من الناس في كثير من مناطق عمان وقراها أما في المسفاة فلا تسمع لها حسا ولا خبرا وهي إلى اليوم لا أثر لها في بلدنا. 
وكان الشيخ رحمه الله كثيرا ما يوجه داخل بيته وفي أسرته وكان يقوّم المعوج ويصلح الخلل بل كان يبادر إلى النصح والتحذير من كثير من المفاسد وله رسالة في هذا الشأن كتبها لأولاده يأمرهم فيها بتقوى الله تعالى ويحذرهم فيها من الربا ومن التعدي على أموال الناس جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم إلى المشايخ الكرام العزاز الأولاد سلطان ومحسن وخالد وحارث والأزهر والوضاح وعبد الحميد وأبنائهم سلام عليكم ورحمة الله وبعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله والعمل بأوامره والانتهاء عن مناهيه فاتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وخذوا لأنفسكم بحذر واعلموا أن هذه الدنيا زائلة وزائل ما فيها وأحذركم من أكل أموال الناس بالباطل ومن أكل الربا الذي عم به البلاء ولم يكد ينجو منه إلا من عصمه الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والسلام عليكم من أبيكم محمد بن شامس. 
اختم هذا المبحث بهذه القصيدة عن الشيخ رحمه الله رد بها على بعض المتطاولين على العلم وأهله إذ قاده حظه التعيس إلى أن يكتب للشيخ رسالة يسأله فيها عن أهم الفنون الشعبية التي تشتهر بها ولاية قريات وعد منها الليوا والنيروز والزار ويطلب من الشيخ معلومات عنها وهو إما جاهل أو متجاهل وإلا فالشيخ أجل من أن يسأل عن هكذا مسألة. 
وقد بين له رحمه الله أن تراث عمان السيف والقلم تراثها الفتوح العظيمة في الهند وإفريقيا وفارس واليمن وغيرها من البلاد وذكر له من مفاخر رجال عمان الصلت بن مالك وتحريره لسقطرى من أيدي النصارى واليعاربة وانتصاراتهم المدوية على البرتغاليين وأحمد بن سعيد الذي وحد البلاد وقمع التحزب والتشرذم القبلي وسعيد بن سلطان الذي بلغت عمان في عهده أوج توسعها وبين له أن الفخر كل الفخر بقادة عمان وعلمائها وأئمتها وبمآثر هؤلاء العظام وبنتاجاتهم العسكرية والسياسية والعلمية وما عدا ذلك من ألعاب وفنون شعبية فهو من سقط المتاع وأن في الاهتمام به جناية على عمان وتاريخها العظيم:
إن كنت تبحث عن تراث عمان **** وشعارها المعروف في الأزمان
سل عن جلندى والمهنا المرتضى **** وعن ابن كعب سل وعن غسان
والصلت إذ أزجى الخميس إلى ال **** حبوش كمثل أسد الغيل والعقبان
فاستنقذوا منهم سقطرى بعد ما **** منيت بظلم مفظع وهوان
وسل الذرى عن يعرب يخبرك تا **** ريخ لهم بغرائب الحدثان
يخبرك ما الإفرنج ذاقت منهم **** في الهند في أفريقيا السودان
في فارس يمن وفي بر وفي **** بحر وفي مستعمرات عمان
وأخ الوقائع أحمد بن سعيد من **** أردى بصولته قوى الطغيان
فحمى عمان بعزمة وشكيمة **** وبسالة لم تأت في الأزمان
ومحا الأذى منها وحرر أرضها **** بمعارك قصمت عرى البطلان
وحفيده الشهم المظفر في الوغى **** أعني سعيدا من بني سلطان
سل عن مغازيهم وعن سطواتهم **** وسليل قيس المرتضى عزان
وعن الدعاة إلى الهدى عن جابر **** وعن الربيع الطاهر الأردان
وعن المنير الحبر موسى ذي التقى **** وسليل محبوب وموسى الثاني
وعن البشير وعن شبيب المرتضى **** وأبي محمد سل وعن عزان
وانظر مآثرهم وماذا خلفوا **** من بعدهم للناس من عرفان
من جامع لأبي محمد ذي العلى **** ولنجل جعفر ذي التقى والشان
والاستقامة مع بيان الشرع مع **** سفر المصنف صاح والتبيان
والمنهج المعروف للشقصي مع **** ما جاء عن موسى وعن عزان
ولكم مآثر في عمان وقادة **** لم يحصروا بالعد والحسبان
ولكم حصون في عمان وكم بنا **** ومعاقل تسمو على كيوان
ولكم كماة في عمان أجلة **** تحكى لخالد أو أبي اليقظان
هذا تراث عمان لا الليوا ولا **** النيروز والزار الخسيس الشان
فبمثل هذا فاخر الدنيا ولا **** تذكر للعب الزنج والنسوان
فتحط قدر عمان من أوج العلى **** وتكون أنت على عمان الجاني
المبحث الخامس: إصلاحات الشيخ البطاشي الاجتماعية
وللشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله إصلاحات اجتماعيه بارزة طالت جوانب عديدة في المجتمع أذكر بعضا منها في هذا المبحث:
1 – قضية غلاء المهور:
قضية غلاء المهور من القضايا التي أرقت المجتمع ولا زالت ولقد عالج الشيخ هذه الظاهرة في المجتمع المحلي (المسفاة) لما رأى استفحال أمرها ومبالغة أولياء الأمور في تحديد صداق مولياتهم وتكليفهم الشباب فوق مقدرتهم فحدد نصابا وسطا للصداق تسهيلا على الشباب والشابات فجعل ألفي ريال حدا أعلى للصداق وجعل للموالي ألف ريال الحد الأعلى. 
لقد سعى الشيخ من خلال هذا التقنين إلى حل مشكلة تفشت في المجتمع العماني واستعصى علاجها على كثير من المحاولات الإصلاحية وقد وفق في مسعاه الحميد بامتثال أهل المسفاة مشورته وعدم مخالفتهم لرأيه فقد كانوا يجلونه ويحترمونه ويعتبرونه أبا لهم جميعا. 
وكان كلامه نافذا عليهم نفاذ كلام الأب على أولاده وكان من ثمار هذا القانون الإصلاحي أن عمر بيوتا وكون أسرا وصان المجتمع عن كثير من البلايا والمحن. 
وبلغ من اهتمام الشيخ رحمه الله بالشباب انه كان يسعى بنفسه إلى تزويجهم إذا ما أحس من أحدهم القدرة عليه وكذا الحال بالنسبة للفتيات فإنه يأمر بتزويجهن على أكفائهن من بني عمومتهن وأهلهن وكان من فضل الله على أولاده أن وفق الشيخ رحمه لله إلى تزويجهم بأيسر طريق وأسهله ولم يتعدى ما أمهروه أهلهم ألفي ريال وقد تكفل به الشيخ رحمه الله وأوصى لأولاده الصغار ممن لم يتزوج بألفي ريال لكل واحد منهم نظير ما تفضل به على إخوتهم نسأل الله أن يجزيه على مسعاه هذا خير الجزاء. 
2 - بناء المجالس:
عرف العمانيون أهمية المجالس العامة منذ أقدم العصور ونحن لو اكتفينا بعصر الإسلام وجعلناه محلا لبحثنا سندرك الدور الكبير الذي قامت به هذه المجالس في إصلاح الفرد والمجتمع. 
لقد كانت المجالس العامة ملتقى لأهل البلد للتباحث والتشاور فيما يستجد من قضايا وأحداث في زمن لم تكن فيه أي من وسائل الإعلام الحديثة ولم يكن نقل الأخبار ومعرفة أحداث العالم إلا من خلال اجتماع الناس في المجالس وتداولهم لما يطرق مسامعهم من علوم وأخبار وأنا أشبه الدور الإعلامي الذي تقوم به المجالس في ذلك الزمان بجهاز التلفاز أو المذياع في يومنا هذا فعن طريق المجالس يستجلي الناس كثيرا من الحقائق ويتناقلون كل جديد عن عالمهم. 
أضف إلى ذلك أن للمجالس العمانية دورا في تنشئة الأولاد وتهذيبهم وصقل أخلاقهم وسلوكياتهم لذلك تجد الآباء حريصين على شهود أبنائهم تلك المجالس حتى يغرسوا في نفوسهم المبادئ والقيم الأصيلة التي ترتكز عليها عادات وتقاليد المجتمع. 
وبلغ من حرص العمانيين على حضور المجالس أنهم يعيرون من لا يشهد تلك المجالس وإذا أرادوا أن ينتقصوا من أحدهم ويحطوا من شأنه لأمر خالف فيه الأعراف أو أساء فيه الأدب عذروه ورفعوا عنه الملامة والتمسوا له عذرا هو في حقيقته تهكم صريح وان وشى ظاهره بغير ذلك فتراهم يعزون ما صنع صاحبهم من مستهجن الأشياء إلى عدم حضوره مجالسهم ومزاحمته إياهم بالركب حتى يستفيد من حديثهم ويعرف منهم المحمود والمذموم من التقاليد والأعراف ولهم في ذلك عبارات شائعة ومتداولة من نحو: لا يلام فلان على فعلته لأنه لم يتعود حضور السبل (المجالس). 
إذا كانت المجالس العمانية مدرسة في التربية والأخلاق والتعليم ولم يكن بدعا من الأمر أن يوليها العمانيون كل هذا الاهتمام والرعاية ويحرصوا أشد الحرص على حضورها مع أبنائهم وما كان ليخرج عن هذا الطور ويشذ عن هذه القاعدة إلا ساقط الهمة خامل الذكر ليس له من المروءة حظ ولا من الشهامة نصيب. 
ولما كانت المجالس بتلك الأهمية البالغة أدرك شيخنا رحمه الله ضرورة إعمار المجالس وإنشائها حتى تقوم بالدور المنوط بها على أكمل وجه وأتمه. 
لقد بلغ ما بناه الشيخ من مجالس عامة في البلد (المسفاة) ثلاثة مجالس وأول هذه المجالس ما يعرف بسبلة الوادي وهو مجلس عام بناه الشيخ في المحلة القديمة بالمسفاة وقد أدركته وأنا صغير السن ولا زلت أستذكر بعضا من حلقات الحاضرين حول الشيخ في ذلك المجلس الذي كان ملتقى لأهل المسفاة ومتنفسا لهم في وقت لم يعرف الناس فيه بعد وسائل الترفيه المعاصرة. 
وكان غالب حديثهم عن هموم المجتمع وشؤون البلد المحلية كالفلج وصيانته ومعرفة أوقات السقي وعموم الزراعة وما يتعلق بالأشجار والنخيل والثمار وسبل الوقاية من الآفات الزراعية إلى آخر ذلك. 
وفيه تناقش القضايا الأسرية والخلافات العائلية بين أهل المسفاة ويحاول الحاضرون إصلاح ذات البين والتوفيق بين الخصوم ورأب الصدع. 
كما كان المجلس محطة استقبال لضيوف الشيخ من شيوخ عمان ورجالتها من قضاة وولاة وطلاب علم وعموم الناس. 
ومع ما طرأ على حياة الناس من تطور وتمدن في العمران توسع أهل المسفاة في سكناهم وخرجوا من ضيق محلتهم القديمة ذات البيوت المتجاورة والجدر الملتصقة ببعضها البعض إلى سيح أفيح رحب أقاموا فيه محلة جديدة أسماها الشيخ الحيطان لكثرة ما نهض على أرضها من الجدر. 
لم يغفل الشيخ رحمه الله وهو يخطط للمحلة الجديدة عن اقتطاع جزء من الأرض خصص بعضه لإقامة مسجد وبعضه الآخر أراده ليقيم عليه مجلسا عاما لأهل البلد وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بسبلة الحيطان. 
أنشئ المسجد أولا ثم تلاه المجلس وقبل أن تنمو المحلة الجديدة وتكتظ بالسكان كان المجلس عامرا يغص بالزائرين من أهل البلد ومن خارجها. 
بيد أن تسارع وتيرة الحياة المعاصرة وما استحدثته المدنية من وسائل تسلية وترفيه صرف كثيرا من الناس عن المداومة على حضور الجلسات التي تعقد في المجلس باستثناء يومي الإجازة الأسبوعية عندما يكون الشيخ بالبلد إذ يلتف أهل المسفاة حول الشيخ وتدب الحياة من جديد في مجلس الحيطان وفي السنوات الأخيرة من عمر الشيخ عندما استقر بالبلد كان يبرز رحمه الله بالمجلس طرفا من النهار وآنا آخر يكون بالمسجد والناس ما بين غاد ورائح. 
ولما رأى رحمه الله كثرة جلوس الناس بالمسجد قبل الصلاة وبعدها بسبب ملازمته هو للمسجد أراد صيانة المسجد عن كثرة الكلام وعن اللغو فأقام مجلسا ملاصقا للمسجد كان يصرف الناس إليه بعد الصلاة ولا يسمح لهم بالجلوس في المسجد إعظاما وإجلالا لبيوت الله من أن تلوث بكلام الدنيا أو أن تكون ساحة للجدال ولرفع الصوت. 
وهذا المجلس الأخير نال حظا من الشهرة والذكر لم يبلغها أخواه فقد نظم فيه الشيخ قصيدة وكذلك فعل ابن عمه الشيخ خالد بن مهنا البطاشي ولعل روحانية المكان وملاصقته للمسجد أوحت للشيخين بأن يسيلا قريحتهما الشعرية تخليدا لهذا المجلس العامر. 
وهذه أولا قصيدة الشيخ محمد بن شامس البطاشي:
مجلس قد سما على كيوان **** رفعوه بموقع الحيطان
شاده ماهر أبا الخشم يدعا **** وبناه بأحسن الإتقان
مجلس صار للمحلة زينا **** وجمالا تاهت به في الزمان
صار للمسجد الشريف وقاء **** وحماه من قالة الهذيان
بنيت هذه المساجد لله ولل **** ذكر والهدى والأذان
زان بالعلم والهدى وترقى **** برجال أولي حلوم وشان
حمد خالد وناصر سيف **** وأبو مازن أبو عزان
شامس فارس ومن كان يدعى **** بهلال وخالد سلطان
وفتى ناصر ونجل حبيب **** فهم عقد جيد هذا المكان
وأبو ماجد ومن كان يسعى **** سعيهم من بنيهم غير واني
عمروا المسجد الشريف بسعي **** لصلاة جماعة وأذان
ما عدا محسنا فقد طاش سهما **** إذ سعى جاهدا إلى الخذلان
لكن الأمر تم والحمد لله **** على عكس ما يرى في المكان
وانتهى المجلس الشريف كما نبغ **** يه في حسن منظر ومعاني
يقرأ الذكر فيه دوما وتتلى **** سنة الهاشمي في كل آن
فلك الحمد يا إلهي كما **** أتممت فعل الجميل والإحسان
وصلاة الإله تغشى نبيا **** مضري الجدود من عدنان
وعلى الآل والصحابة طرا **** من أشادوا قواعد الإيمان
ما أضاء بارق وأرزم رعد **** وسقى وابل ذرى الحيطان
وهذه قصيدة الشيخ خالد بن مهنا في مدح مجلس الحيطان:
يا مجلس الحيطان صرت على الذرى **** ببناء سبلتك الجديدة مظهرا
أبديت بمنظرها جمالا رائعا **** وقد ارتقت شأوا هناك ومظهرا
حزت الجمال وأنت في قيد البنا **** وعلوت لا كسرى هناك وقيصرا
أسليل شامس شدت مبنى فاخرا **** حقا لمثل بنائه أن تفخرا
لم تنثني أبدا لفكرة محسن **** حيث ارتأى رأيا يخالف ما ترى
وبنيته صونا لساحة مسجد **** عن جاهل يبدي الكلام أو المرا
إن التكلم في المساجد آكل **** حسناتنا كالنار تأكل ما ترى
معنى حديث قاله خير الورى **** صلى عليه الله ما بدر سرى
يا أيها الإخوان هيا فانبذوا **** زور الكلام وجنبوه الثرثرا
هذا أبو سلطان بينكم سلوا **** عن دينكم وسلوه عما قد طرا
فتعلموا وتمسكوا وتهذبوا **** أخذا بأخلاق الهداة من الورى
بشرى بمجلسنا على طول المدى **** حل السرور بساحتيه ميسرا
لا زلت أكرم مجلس وأعزه **** بكرامة تحيي الرسوم معمرا
يكفيك أني صغت شعري مادحا **** ونظمت درا في الثناء وجوهرا
يا مجلس الحيطان دم في عزة **** تهدي لنا مسك الثناء وجوهرا
والله يحفظه ويحفظ أهله **** ما أشرقت شمس وما بدر سرى
وقد يصدق على مجالس الشيخ الخاصة الملحقة ببيوته أنها مجالس عامة لكثرة زوارها ولتأديتها نفس الغرض السامي. 
3 - بناء المساجد:
جعل الإسلام من عمارة بيوت الله بالبناء والتشييد قربة من أعظم القربات ووعد من بنى لله مسجدا ثوابا جزيلا عند الله تعالى. 
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أظهر اهتماما كبيرا بعمارة المساجد فما كادت قدماه تطأ أرض المدينة المنورة حتى أقام بها مسجدين مسجد قباء والمسجد النبوي الشريف بل إنه شرع في عمارتهما قبل أي عمل آخر وما ذلك إلا لمعرفته بأهمية المسجد ودوره الهام في حياة الناس والمجتمع. 
ولم تكن المساجد دورا للعبادة فحسب وإنما هي مدارس ينهل منها الطلاب فنون العلم وهي ساحة للتقاضي ولفصل النزاعات بين الخصوم وهي كذلك ملتقى أهل البلد للتباحث والتشاور حول كثير من القضايا الهامة. 
والمسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم بعمل ما تقوم به مؤسسات الدولة اليوم فلا غرو أن يولي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المساجد ذلك الاهتمام وتلك العناية. 
وفي عمان فإن أقدم الشواهد والآثار الإسلامية هي المساجد ويعد مسجد الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السعدي ومسجد القبلتين وسواهما من المساجد التي بنيت على عهد النبوة من أقدم المساجد في العالم الإسلامي. 
وبدافع التزلف إلى الله تعالى والتقرب إليه بأعظم الوسائل والطاعات بنى شيخنا البطاشي رحمه الله وشارك في بناء عدة مساجد في المسفاة وفي مسقط. 
وأول هذه المساجد مسجد الصرم بالمسفاة بناه بيديه بمشاركة إخوانه وبني عمومته وهو مبني من الطين واليوم هو داثر لا تقام فيه الصلاة بسبب انتقال الناس إلى محلة جديدة. 
وبني مسجدا آخر هو مسجد جيل الحفاظ وأعانه عليه إخوانه وبنو عمومته وهذا المسجد مبني من الحصى ولاحقا دخلت عليه تعديلات بالإسمنت وأعيد سقفه من جديد وزود بالكهرباء ولا يزال عامرا بالصلاة والذكر إلى اليوم. 
ولما استقر المقام بالشيخ في الوشل من مدينة مطرح مع بداية سنوات النهضة الحديثة شرع في بناء مسجد الوشل ويسمى مسجد العقبة وشاركه فيه مجموعه من أشياخ العلم وأهل الفضل والدين. 
وهذا المسجد لازمه الشيخ ردحا من الزمن ينيف على ربع قرن وحتى مع انتقال سكانه من الوشل إلى الوادي الكبير ظل يتردد على مسجد الوشل يوميا للصلاة بسبب عدم وجود مسجد قريب من منزلة بالوادي الكبير إذ أقرب المساجد إليه المسجد الكويتي ويحتاج الوصول إليه إلى سيارة. 
وقد وضع الشيخ لنفسه جدولا رتب فيه مكان صلاة يومه وليلته فكان يصلي الفجر في المسجد الكويتي أما الظهر فيؤديها بمسجد وزارة العدل ويصلي العصر بمسجد الوشل ويظل منتظرا المغرب حتى إذا أداها رجع إلى منزله بالوادي الكبير وكان قد خصص صالة للصلاة يصلي فيها العشاء جماعة بمن حضر من زواره. 
واستمر على هذا الحال زهاء خمس سنين عاد بعدها للوشل ليستقر بها وليكون قريبا من مسجده. 
إن عدم وجود مسجد قريب من منزل الشيخ بالوادي الكبير كان سببا في انتقاله منه وعودته إلى منزله السابق بالوشل وهو ما عبر عنه في قصيدة له يودع فيها منزله بالوادي الكبير:
وداع جاء من صدق الضمير **** لمنزلنا على وادي الكبير
مكان قد سكناه وعشنا **** به ستين من عدد الشهور
وغادرناه لا لكراهة لا **** ولا ملل ومقت أو نفور
ولا لأذية من نحو جار **** ولا لص ولا كلب عقور
ولكن لم يكن بالقرب منه **** أذان للعشي ولا البكور
وأية منزل لم تلق فيه **** صلاة جماعة طول الشهور
بمسجده فليس يطيب فيه **** مقام لامرئ فطن حذور
ففقد المسجد المعمور حتما **** أقض لمضجعي ونفى سرور
فلو بالقرب منه مسجد ما **** نقلت مطيتي وشددت كوري
وثالث المساجد التي تشرف الشيخ ببنائها مسجد الحيطان بالمسفاة هذا المسجد دعت الحاجة إليه مع تحول أهل المسفاة إلى محلتهم الجديدة الحيطان وقد أشرف الشيخ بنفسه على بناء المسجد من ساعة وضع أساسه إلى أن اكتمل بناؤه. 
هذه المساجد التي بناها الشيخ لم تعرف شيئا من الزخرفة والنقش المستخدم في كثير من المساجد في وقتنا الحاضر وإنما يغلب على بنائها طابع البساطة إلى أبعد الحدود وكان ينهى عن زخرفة المساجد ويرى في الزخرفة شاغلا عن الصلاة والذكر. 
4 - دفتر الولادات والوفيات:
هذا الدفتر ابتدع فيه الشيخ رحمه الله نظاما حفظ به تواريخ الولادة والوفاة لأهل المسفاة في وقت لم تكن فيه شهادات ميلاد أو وفاة. 
وقد مثل هذا الدفتر مرجعا وثائقيا هاما لأهل المسفاة فبواسطته تم حفظ سنين الولادة والوفاة منذ عهد الجد الأكبر شامس بن خنجر بن شامس البطاشي المتوفى سنة 1290هـ أي أنه دون مواليد ووفيات ما يزيد على قرن وربع القرن من الزمان. 
وهذا العمل الذي قام به الشيخ رحمه الله قريب من عمل أصحاب التراجم في كتبهم إلا أن الشيخ لا يترجم للشخص وإنما يكتفي بذكر سنة ولادته ووفاته. 
والشيخ بهذا العمل سبق عصره بعشرات السنين إذ لم تظهر في عمان شهادات الميلاد والوفاة والسجلات التي تحفظها إلا مع بداية عصر النهضة. 
ومع أن الدفتر يضم بين دفتيه مئات الأسماء من المواليد والوفيات إلا أن الشيخ لم يرجع إليه يوما ليتعرف على سنة ولادة شخص أو وفاته لأنه استوعب جميع ما في الدفتر في ذاكرته فبمجرد أن ينقدح التاريخ في ذهنه لأول مرة يظل عالقا إلى ما شاء الله. 
وربما استخبر الرجل الغريب عن سنه ثم بعد سنين طويلة يلقاه فيكون الرجل قد نسي سنة ولادته فيتحراها من ذاكرة الشيخ فيجدها هناك. 
المبحث السادس: كيف يقضي يومه
يبدأ الشيخ يومه من ساعات الصباح الأولى وقبل تباشير الفجر الأول فيتوضأ ويصلي ما شاء الله ثم يطالع في كتب الأثر ويكثر من التسبيح والاستغفار ويبدأ ورده اليومي من القرآن الكريم وكان قد اتخذ وردا يوميا يقرأ فيه عشرة أجزاء من القرآن الكريم على مدار اليوم حتى إذا ما أذن للفجر قام وصلى سنة الفجر بالبيت ثم يذهب للمسجد ويصلي بالناس الفجر وبعد الصلاة يعقد حلقة لقراءة جزء واحد من القرآن مع مجموعة من المصلين ثم يعود للبيت ويطالع في الكتب إلى شروق الشمس فيفد عليه أصحاب الحاجات من مستفتين ومن خصوم ومن متعلمين ثم يدعو بالإفطار فيشاركه الحاضرون الأكل ثم يغتسل ويتوضأ ويستعد للذهاب إلى المحكمة. 
وفي الطريق من البيت إلى المحكمة يقرأ جزأ من القرآن الكريم وكذلك في طريق العودة ويظل بالمحكمة حتى يصلي الظهر ولا يقتصر وجوده بالمحكمة على فصل القضاء بل يرد على أسئلة المستفتين من القضاة وطلبة العلم وعامة الناس ثم يعود للبيت ويطالع في كتب الأثر ثم يتناول الغداء ويضطجع قليلا وأحيانا يزعجه الناس عن الراحة بعدها يخرج لصلاة العصر ثم يعود للبيت فإن كان ثمة أناس استمع إليهم أو أنه يشتغل بورده وبالمطالعة ولا يخلو هذا الوقت غالبا من الناس. 
فإذا كان وقت المغرب خرج للمسجد ثم يعود للبيت وهذا الوقت مزحوم بالناس ونادرا ما يجد فراغا للمطالعة وأعجب منه رحمه الله ومن سعة صدره فإنه على هذا العمر وقد أضر به الشيب ما رأيته اعتذر عن استقبال أحد رغم ما يسببه ذلك له من مشقة فإن بعض الناس لا يراعون أحوال الشيخ وربما يقصدونه في لحظة راحة أو نوم فلا يتوانى عن قضاء حوائجهم ولم يكن وقته بالمواعيد فمن بدت له الحاجة قصده في مجلسه فإذا راعه كثرة الحاضرين طلب النجوى فيلبي له الشيخ طلبه. 
فإذا حان وقت الصلاة خرج الشيخ للمسجد وربما آذن الجالسين معه بضرورة مغادرته للمجلس فإن بعض الناس لا يفقهون ذلك ويواصلون حديثهم إلى وقت الصلاة. 
وزوار مجلس الشيخ رحمه الله على مراتب ودرجات: فهناك العلماء والقضاة ومن في حكمهم من طلبة العلم وهؤلاء لهم منزلة خاصة عند الشيخ ويستبشر بقدومهم ويقربهم ويدنيهم ويأخذ معهم أطراف الحديث وجل كلامه معهم في مباحث العلم. 
وهناك علية القوم والشيوخ والرؤوس في جماعتهم ومن في حكمهم من أصحاب المناصب والكراسي وهؤلاء يعرف الشيخ قدرهم ويحفظ لهم منزلتهم ويكون حديثه معهم عن قضايا المجتمع وهموم الأمة وعن النزاعات القبلية ومحاولة إيجاد الحلول لها. 
وهناك الخصوم وأصحاب النزاعات وهؤلاء يحاولون حل مشاكلهم وخصوماتهم عند الشيخ قبل بروزهم للمحكمة وكم من قضايا لم تعرف طريقا للمحكمة بفضل إصلاح الشيخ للمدعين بل إن كثيرا من الناس والقبائل تعارفوا بينهم على رفع دعاواهم الشيخ قبل أن يترافعوا أمام المحاكم تقديرا له وثقة فيه. 
وهناك أصحاب الحاجات وهؤلاء إما أن تكون حاجتهم مقضية عند الشيخ أو أنه يسعى بنفسه لدى الجهات المختصة لقضائها. 
وهناك المستفتون وأصحاب السؤالات وهؤلاء غايتهم جواب يروي ظمأهم ويرفع الإشكال عن أفهامهم. 
هؤلاء هم عموم جلساء شيخنا البطاشي وزواره وعمار مجلسه ومعهم يقضي أغلب وقته. 
وربما تواصل المجلس إلى ما بعد صلاة العشاء فإذا انفض سامر القوم قام الشيخ وصلى النوافل وأتبعها الوتر ثم يطالع في الكتب ويكمل ورده اليومي من القرآن وينام في ساعة متأخرة من الليل ويصحو في الساعات الأولى من الصباح ومجمل ما ينامه في اليوم والليلة ثلاث ساعات. 
هكذا يقضي الشيخ محمد بن شامس البطاشي يومه وقد يأتي عليه وقت يخالف فيه النظام المذكور لا سيما بعد صلاة العصر ففي هذا الوقت يخرج أحيانا من البيت لأداء بعض الواجبات كالزيارات والتعازي. 
وبعد التقاعد لازم الشيخ البلد واستقر بالمسفاة فنالت حظا باستقراره فيها وصارت قبلة الوفود وكعبة القصاد ومع أن الناس تعارفوا على أن التقاعد يعقبه وقت الراحة والاسترخاء وتناقص العطاء إلا أن الشيخ لم يكن يعرف هذا المعنى فتواصل عطاؤه كما كان واستمر في إسداء المشورة والنصح والإصلاح كما بقي مرجعا للقضاة لكل ما يشكل من قضايا. 
إن رجلا كالشيخ محمد بن شامس يزداد إعجابك به وأنت تقرأ سيرته إذا علمت أنه يعيش حياة متواضعة بعيدة كل البعد عن صخب الدنيا وزخرفها فكان ينام على الأرض ويترك السرير زهدا فيه ويلبس ما تيسر من الثياب ويأكل ما حضر ويسكن في بيت متواضع ولا يخرج للأسواق ولا يذهب للنزهات ولا يشاهد التلفاز وكان يعد أحسن ما فيه مضيعة للوقت بل إن بيته الذي بالبلد لم يكن به تلفاز إطلاقا. 
هكذا كان شيخنا ترك أبوابا كثيرة من الدنيا بغضا فيها وتعففا عنها ولو أراد عرضها كما أرادها غيره لكانت طوع يديه ولكنه قنع منها بالقليل. 
المبحث السابع: وفاته
لطالما ردد شيخنا مرارًا عديدة هذين البيتين من شعره:
لاهم أسألك الشهادة إن دنا **** آن انقضا أجلي وحمّ مماتي
فأموت في كرم كموت أئمتي **** بلج ومرداس وذي الثفنات
ثم يستدرك ويقول لم يشأ الله لنا نيل الشهادة فنموت في الجهاد حتى يكون موتا كموت بلج ومرداس وذي الثفنات ويعلم الله أنا جاهدنا وطلبنا الموت في سبيله ولكن فلا أقل من أن نسأل الله حسن الخاتمة. 
كان من عادة الشيخ رحمه الله أنه لا ينام إلا على طهارة فإذا صلى النوافل والوتر جلس ما شاء الله له في مطالعة كتب الأثر أو في الاستغفار والتسبيح ثم ينام على وضوئه السابق فلما كان قبل وفاته بحوالي الشهرين جعل يتوضأ وضوءا آخر قبيل النوم مباشرة وكان يقول: أنوي به الطهارة للموت وقد بدت عليه علامات الإحساس بدنو الأجل فأوصى بالواجب والمندوب وكأنه مودع الدنيا من الغد ولم يفته أن يوصي حتى باللباس الذي عليه فأوصى بالعمامة أن لا ترمى ولا تمزق ولا تهان ولكن إن ضاق بكم الفضاء فادفنوها فإنها شعار أهل العلم وتاج العلماء وكان قد اتخذ دفترا لوصاياه وللذي له وللذي عليه فلما كان في أيامه الأخيرة صار الدفتر قريبا من منامه ويسجل فيه ما يستجد ساعة بساعة وإن كان حقيرا في نظر الناس كالريال والريالين وصلى يوما ثم رأى أثر دم في ثوبه عند النوم فقام من ساعته يقضي صلوات يومه ذاك ولم يؤخرها للصباح خشية الموت. 
كل هذه الأحداث كانت في أيامه الأخيرة فلما كان قبل وفاته بيومين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يبتسم له ويسلمه مفتاح بيته في الجنة فاستبشر بها الشيخ خيرا فلما كان اليوم الذي بعده سمعته يؤذن بالمسجد وما سمعته أذن قبل ذلك اليوم وكان آخر يوم من رمضان وفي صبيحة يوم العيد غرة شوال سنة 1420 ه خرج بالناس للصلاة فأمهم ثم أمر ابنه الشيخ حارث بالخطبة وأخذ يسار المحراب ولم تمض دقائق إلا وسقط على الأرض وقد غادرت روحه جسده على وضوئه وفي محراب صلاته وأمام يدي ربه فيا لها من ميتة كميتة مرداس وذي الثفنات فإنهم نالوا الشهادة في صلاتهم وقد تمنى شيخنا الشهادة وتمنى أن يموت كميتتهم فعسى أن يكون في زمرة الشهداء كما تمنى وكما ردد لسانه:
لاهم أسألك الشهادة إن دنا **** آن انقضا أجلي وحمّ مماتي
فأموت في كرم كموت أئمتي **** بلج ومرداس وذي الثفنات
فاضت روحه إلى باريها بعد رحلة دامت تسعين عاما قضاها في خدمة الإسلام بالسيف والقلم فرزئ الإسلام بفقده وجلت علينا مصيبته وما كان لنا إلا الصبر والسلوان والتسليم بالقضاء والقدر. 
وقد رثاه شعراء كثيرون منهم الشيخ ناصر بن سالم بن سليمان الرواحي الذي رثاه بهذه الأبيات:
عبر تترى على اثر عبر **** كل حين تتحدى للبشر
وهم ما همهم إلا البقا **** في حياة ما لها أدنى قدر
أمل مرد وعيش عابر **** وسرور بعده يأتي كدر
كسحاب خلب بارقه **** هذه الدنيا فبئس المستقر
كم أطاحت من قرون قبلنا **** ملكوا الدنيا على خير وشر
أيها المغرور بالدنيا اتئد **** إنما الكيس فيها من حذر
لست تدري فجأة الموت متى **** وبأي الأرض يغشاك القدر
انتبه واعمل لأخراك التي **** سوف تغشاك ولا تدري المقر
أنت مرهون بما قدمته **** فادخر زادا ليوم لا مفر
كيف لا والموت يجري كأسه **** كل آن بين أحشاد البشر
(لم يسالم جاهلا في غيه) **** (لا ولا عالمنا الحبر الأبر)
كم فتى ما بين أهليه ثوى **** حين وافاه الحمام المنتظر
كأبي الحارث نبراس التقى **** علما ناهيك من قوم خير
شب ما عاش بأحضان الوفا **** وتربى في بساتين الأثر
خدم العلم وأهليه على **** أمل الخير ككنز مدخر
منهل يرتاده من بعده **** طالبوا العلم فنعم المتجر
يا سمي المصطفى أوحشتنا **** بعد إيناس فضاق المصطبر
من لهذا العلم يبني صرحه **** عاليا يا من غدا رهين الحفر
يا فقيد العصر يا أوحده **** يا عميد الشرع في بعد النظر
دعوة لبيت داعيها فلم **** تكن الأبي متى حم القدر
يا أبا الحارث خلفت الأسى **** بين أعداد ملايين البشر
يا أبا الحارث أظلمت الدنا **** بعد إشراقك إشراق القمر
أسفى لو كان يجدي الأسف **** لفقيد رزؤه إحدى الكبر
رزؤه للدين صدع ما له **** قط من رأب مدى كر وفر
أمة الإسلام صبرا إننا **** أمة بالصبر يهنانا الظفر
أسرة المفقود دمعي بالأسى **** يسبق السحب بثجاج المطر
لكم حسن العزا من فاقد **** مثلكم ما آض برق في السحر
نسأل الله له من فيضه **** رحمة تترى بحسن المستقر
بجوار المصطفى مع صحبه **** في جنان بين دل وخفر
الخاتمة
تناولت في هذه الدراسة سيرة الشيخ العلامة محمد بن شامس البطاشي أحد أعلام عمان المعاصرين وأأمل أن أكون قد أتيت على كثير من جوانب شخصيته. 
لقد كان شيخنا عالما عاملا لا يفتر عن البحث والمطالعة ولم يكن يعتبر نفسه أكثر من طالب علم. 
وللشيخ رحمه الله إسهامات كثيرة في العلم والمعرفة ويعتبر كتابه سلاسل الذهب من أضخم الموسوعات الأباضية التي ألفت في القرن الرابع عشر الهجري كما أن أحكامه القضائية تعد بالآلاف ولو قدر لها أن تجمع لكانت من أنفع المراجع في بابها ونحن نهيب بوزارة العدل أن تنهض بهذه المهمة الجسيمة خدمة للعلم واعترافا بالفضل لأهله. 
ابتلي شيخنا رحمه الله في حياته بابتلاءات جمة فصبر واحتسب وناله من مؤامرات الخصوم ما زاده إيمانا بخالقه وقوى من عزيمته وإرادته. 
لم يكن شيخنا رحمه الله حبيس داره أو قعيد مجلسه منطويا على نفسه أو منشغلا بهمومه ونكباته وإنما هو مصلح اجتماعي من طراز فريد كان يسعى إلى توطيد المحبة والأخوة الحقة بين جميع العمانيين دون التفات إلى قبلية أو عصبية أو موالاة وهو يدعو إلى الله تعالى متى أمكنته سانحة وكان وسطا في منهجيته ودعوته. 
ولعلي في هذه العجالة وضعت النقاط على الحروف ورسمت للأجيال المعاصرة من أبناء عمان صورة مشرقة عن حياة أحد أعلامهم عسى أن يترسموا خطاه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
[انتهت الدراسة]