هل الـمدرسة تقوم بالتّربية الصّحيحة ؟!
حين تقرأ وتسمع أنّ بعض المسؤولين على قيادة الشّعوب، وحين يأتيك أمر مخالف للدّين من القابعين في مناصب تقرير مصيرهاـ والتّخطيط لها ورسم مسارها وتوجيه حياتها وتقنينها؛ بما يخالف الأصول والمبادئ، ويصادم القيم ويناهض المقوّمات.. فكبّر على الأخلاق أربعا، واختر لك بديلا عن أرضك مربعا، وابحث لك للنّجاة من الهلاك غير موطنك مرتعا.
حين تتعالى بعض الأصوات من داخل المجتمع العميق، وتنادي بالحريّة الشّخصيّة في ممارسة العبادات، بلا حدود ولا سدود ولا قيود.. إلّا بما يمليه هوى النّفس والوجدان ونزغات الشّيطان ونزوات الإنسان، فماذا يبقى من الكرامة والمروءة والإحسان، وماذا يتمحضّ من الحياءـ الدي يحفظ الإيمان..
هذه المخالفات الصّادمة للدّين كثيرة. نشير إلى واحدة منها، ونحن نستقبل شهر الصّيام، الذي هو ركن من أركان الإسلام، الذي لا يتحقّق إيمان المسلم إلّا إذا أتاه بكلّ شروطه وأركانه، وقد ربطه اللهU بالتّقوى: (لعلّكم تتّقون)، وقرنه رسولنا الكريم r بالإيمان، فقال : (من صام رمضان إيمانا واحتسابا...).
تردّدت على مسامع النّاس نداءات صارخة بالزّيغ عن طريق الهدى، من الجهات العليا من بعض الأنظمة العربيّة؛ هي تعليمات صارمة، أنّه يمنع تأنيب أيّ شخص انتهك حرمة رمضان بالأكل وبغيره، القيام بما يخالف التّعليمات هو مساسٌ بالحريّة الشّخصية وتدخلّ في الشّؤون الخاصّة، لا يحوز قانونًا؛ لأنّه صادرٌ من أولي الأمر والنّهى، ولو خالف ما أمر به ربّ أولئك الأسياد وربّ الخلق أجمعين.
يجد هذا النّداء صداه في بعض المفلسين في الدّين، والمنسلخين من القيم من عامّة النّاس، فيعكسونه في تصريحاتهم، ويطالبون أولي الأمر أن لا يحرموا النّاس من فتح المطاعم في نهار رمضان، وأن لا يقوموا بأي إجراء يمنع من عدم الالتزام بما حرّمه الله في رمضان. إنّها السّماحة والكرم ومعاملة النّاس بما يرغبون فيه. فهذه هي الدّيمقراطيّة والرّحمة والشّفقة التي تجعل النّاس يعيشون في أمن من الضّغوط والإكراه، فــ (لا إكراه في الدّين).
هذه التّصرّفات من القمّة والقاعدة هي نذير أخطار على الحياة السّويّة، وكبير إفلاس في القيم، وهدير تصدّع في الشّخصيّة المتوازنة التي تكفلها التّشريعات الإسلاميّة. السّؤال الذي يعرض نفسه على العقلاء والحكماء والنّبلاء والفهماء.. هو ما هي أسباب هذا التّخبّط والتّخلي عن المبادئ والأصول، والتّنصّل من الالتزامات الدّينيّة؟ بل من هو المتسبّب في هذا السّلوك المشين؟ أو المسهم في هذا التّصرّف الـمُهين للفطرة قبل كلّ شيء؟.
هناك أسباب كثيرة، وعوامل عديدة، وجهات متعدّدة مشاركة في الاستهتار بالقيم والمقوّمات .. لكنّ هناك جهة لها دور كبير في هذا الانحطاط الأخلاقي، وهذا التّسفّل القيمي، هو "الـمدرسة"، التي وُجِدَتْ أصلا لتربّي وتعلّم وتنشئ النّفوس، وتبني العقول، وتقيم الشّخصيّة وتؤسّس المجتمع، كما قال أمير الشّعراء أحمد شوقي:
قُمْ للــمُعلّمِ وفِّهِ الــتّبجبــــــــــــــــــــلَا |
|
كَادَ الــمُعَلِّمُ أَنْ يَكونَ رَسُولَا |
أَرَأَيْتَ أَشِرَفَ أَوْ أجَلَّ مِنَ الذِي |
|
يَبْــنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُسًا وَعُقُولَا |
فالرّسولr بُعثَ معلّما، وَأًرْسِلَ ليتمّم مكارم الأخلاق.. ومن يحمل رسالة التّعليم يجب أن يكون أمينا في القيام بما كان يقوم به معلّم البشريّة، والمدرسة التي تمارس التّعليم يجب أن تهدف إلى التّربيّة في هذه الخليّة؛ في برامجها ومناهجها ومشروعاتها، وفي إدارتها وموجّهيها ومعلّميها، وفي كلّ ما يتحرّك في المؤسّسة التّعليميّة وما يَـمُتّ إليها بصلة.. فكلّ من ينشط في المجتمع هو خرّيج المدرسة، فكما يُبْنَى يَبِنِي، وكما يُنَشَّأُ يُنشِّئُ.. هل مدارسنا بقوم بعدا الدّور الأساس في تأسيس المجتمع الفاضل وتهيئة المحيط النّظيف الذي يترعرع فيه ويَدْرُج، هل هي تقوم بالـجَوْرِ عليه؟ إمّا بالتّقصير في التّربية والتّنشِئَة الصّحيحين، أو بِتَعَمُّدِ الانحراف عن سواء السّبيل في عملها، ما يؤدّي بالأجيال المتعاقبة إلى الانجراف نحو هاوية الإفلاس القيمي والانهيار الأخلاقي.. هذه مسؤوليّة كبيرة وأمانة ثقيلة، يتحمّل أداءَهما من وُكِلَ إليه أمرُهما، وَيُـحمَّلُ آثارهما؛ نجاحًا أو إخفاقا، دينيّا ووطنيّا وحضاريّا..
لعرض حال التّربية عندنا أستسمح شيخنا المرحوم إبراهيم بن عيسى أبي اليقظان (ت 1393ه/ 1973م)، أن أستعير فقرة من مقاله: "العلم والتّعليم الصّحيحان"، الذي نشره في جريدته: وادي ميزاب، عدد: 2، 8/ 10/ 1926 م. فهي تنقل وتعكس لنا حال تعليمنا ومدرستنا اليوم. كتب الشّيخ:"... أساس الحياة الحقيقيّة، إنمّا هو التّربية الصّحيحة، ولذلك تقدّم المسلمون لَـمّا تشبّثوا بها، ثمّ لَـمّا تغّيرت الأوضاع وأساليب التّربية وأصبح الفرد... خاليا من روح التّربية والتّهذيب الإسلامي، أجدبت النّفوس وتحطّمت القلوب بعد الاخضـرار والازدهار، فتقلّص ظلّ العدالة من الأرض، ومالت شمس السّعادة الحقيقيّة نحو الغروب، فأصبح العالم في ظلام حالك، ورجع إليه كلّ ما كان قبل النّبوّة من المفاسد والمظالم والشّرور".
هذه وجهة نظري في طبيعة مدرستنا اليوم، هي حال مزريّة، جعلتنا نلعق مرارة الخيبة والخسران في بناء نفوس أبنائنا على الأسس الصّحيحة للبناء، وعلى المبادي السّليمة في التّنشئة القويمة، وعلى الأصول التي تضمن عدم الانحراف عن صراط الله الدي سطّره ورسمه لنا في قوله: )وَأَنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفرّق بِكُمِ عَنِ سَبيله ذَلِكُمْ وَصَّاكُمِ بِهِ لَغلّكُم تتَّقُون( (الأنعام/153).
نركّز على هذه الكلمات في هذه الآية؛ لنعي حقيقة الاستقامة التي تنتجها التّربيّة الصّحيحة السّليمة، التي هي رسالة المدرسة: (صراطا مستقيما، فاتّبعوه، وصّاكم به، لعلّكم تتّقون).. يبقى السّؤال قائمًا أو نائما: هل الـمدرسة تقوم بالتّربية الصّحيحة؟؟!!
نسأل الله الاستقامة لمناهجنا التّربويّة، والاستفاقة لـمُربّينا، والسّلامة لناشئتنا، والعافية لمجتمعنا. إنّه ولي التّوفيق والهداية..
الجزائر يوم الجمعة: 27 شعبان 1445ه
08 مارس 2024م
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام